مئة عام على مؤتمر سان ريمو
د. مازن المغربي
صادف الخامس والعشرون من شهر نيسان الماضي مرور مئة عام على مؤتمر سان ريمو الذي وضع أسس تقاسم منطقة الساحل الشرقي للبحر المتوسط، ليحول الوعود التي بٌذلت في خضم الحرب إلى تعهدات دولية موثقة. لكن، وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى وسيطرة الجيش البريطاني على فلسطين وسورية الداخلية، واحتلال القوات الفرنسية للساحل السوري، بدأ كل طرف من الحلفاء بمراجعة مواقفه ومحاولة التملص من تعهدات وإعلانات فرضتها ظروف الحرب.
كانت اتفاقيات سايكس بيكو أشهر المعاهدات السرية بالنسبة لسكان الولايات العثمانية الناطقة باللغة العربية في آسيا. لكن كثيراً من الساسة البريطانيين رأوا أن تلك الاتفاقية كانت “مجحفة” بحق بلادهم، بل وعارض لويد جورج في البداية أي تقسيم لفلسطين وأية محاولة لمنح فرنسا أي نفوذ فيها، فقد كان مٌشبعاً بأفكار لاهوتية، وعد نفسه مكلفاً من السماء باستعادة الأراضي المقدسة.
وبعد سيطرة القوات البريطانية على فلسطين، رفض الجنرال اللنبي نشر نصوص إعلان بلفور، بل وكان العديد من ضباط الجيش البريطاني ميالين إلى رفض فكرة إنشاء “وطن” لليهود وسط بحر من السكان الرافضين للفكرة، لأن ذلك سيرتب على بلادهم أعباء التزام مفتوح بحماية ذلك الكيان. وبالمقابل، نشط أنصار الحركة الصهيونية في الإدارة البريطانية، وشكلوا، بداية عام 1918، لجنة صهيونية ترأسها حاييم وايزمان، وضمت ممثلين عن مختلف المنظمات الصهيونية البريطانية.
وضمن هذا السياق، جرى تنظيم لقاء بين وايزمان والأمير فيصل بن الحسين الذي نصبته بريطانيا زعيماً على حركة التمرد ضد الدولة العثمانية. بدا وايزمان شديد الحماس لهذا اللقاء إلى حد دفعه للكتابة إلى زوجته عن مدى إعجابه بأول شخص قومي عربي حقيقي! وأخبرها أن الفيصل غير مهتم بفلسطين، وكل ما يهمه هو سورية ودمشق، وأنه لا يعد سكان فلسطين عرباً؛ ويبدو أن هذا يعكس فكرة شائعة بين سكان شبه الجزيرة العربية عبر عنها بمختلف الأشكال أمراء آل سعود خلال الفترة الماضية.
أما على الأرض، في الحجاز، فكانت مكانة الشريف الحسين، المدعوم من القاهرة، تتهاوى بسرعة أمام صعود نجم منافسه عبد العزيز بن سعود المدعوم من حكومة الهند البريطانية. يضاف إلى ذلك تراجع مكانة الحسين بن علي بعد أن صار الفيصل هو الشخص المفضل لدى الضباط البريطانيين بسبب تجاوبه مع طلباتهم على عكس والده. بعدها شارك الفيصل في مؤتمر السلام في باريس، لكن مشاركته لم تٌسفر إلا عن توقيع اتفاقيته مع حاييم وايزمان، والتي أعلن فيها قبول الهيمنة الصهيونية على فلسطين مقابل تعهد الحركة الصهيونية بدعم مطالبه لدى الحلفاء وتنفيذ ما وعدوا به والده.
إنما في الحروب لا قيمة للوعود والتعهدات، ولا شيء يدخل في الحساب إلا القوة العسكرية والمصالح بعيدة المدى. وكان قد سبق للبريطانيين التهويل في قوة جيش الفيصل وإعلاء أهمية دوره في الحرب بهدف إقناع فرنسا بدعوته للمشاركة في مؤتمر السلام. وقد أراد الفيصل المشاركة في المؤتمر بوصفه ناطقاً باسم العرب وانتهى به الأمر بالقبول بما منحته إياه باريس من دور الناطق باسم حاكم الحجاز. بعدها تغير الحال، حيث ذكر تقرير للاستخبارات البريطانية عام 1919 أن الفيصل لا يقود سوى ألف مقاتل نظامي، وبضعة آلاف من مقاتلي البدو، بمعنى أنه أعجز من أن يتمكن من التأثير على ميزان القوى على الأرض.
عٌقد مؤتمر سان ريمو في الفترة ما بين 19 و26 نيسان 1920، حيث اجتمع المجلس الأعلى للحلفاء في مدينة سان ريمو الإيطالية وتم تبني قرار بفرض انتداب عصبة الأمم لإدارة ثلاثة مناطق غير محددة من أراضي الدولة العثمانية، هي سورية وفلسطين وبلاد الرافدين، حيث تقرر رسم حدود المناطق الثلاثة لاحقاً.
شاركت في المؤتمر وفود ترأسها كل من رئيس وزراء بريطانيا، ورئيس الحكومة الفرنسية، ورئيس وزراء إيطاليا، وسفير اليابان لدى إيطاليا. وشاركت الولايات المتحدة بوفد مراقب. وكان من أهم قرارات المؤتمر تبني إعلان بلفور ضمن وثائقه الرسمية، استناداً إلى نجاح وفد المنظمة الصهيونية العالمية في إدراج الإعلان ضمن وثائق مؤتمر السلام في باريس بفضل براعة وايزمان ونجاحه في مخاطبة المؤتمرين بشكل مباشر، في حين كان أداء الفيصل بن الحسين بائساً إلى حد يثير الرثاء حيث خاطب المؤتمر بكلمة موجزة ألقاها باللغة العربية وتولى لورنس ترجمتها نظراً لعدم تمكن الفيصل من أي لغة أوروبية.
لعبت نتائج مؤتمر سان ريمو دوراً حاسماً في تثبيت أسس مشروع الحركة الصهيونية من خلال فرض نظام دولي جديد قائم على فكرة النزعة القومية وبناء دول قومية جديدة على أنقاض الامبراطوريات متعددة القوميات التي كانت قائمة قبل الحرب العالمية الأولى. وفي هذا السياق، تبنت بريطانيا مشروعين متناقضين، أولهما بناء دولة عربية تحت رعايتها بما يتوافق مع الوعود الغامضة التي تضمنتها مراسلات الحسين – مكماهون، والثاني إنشاء “ملاذ قومي” لليهود بما يتوافق مع إعلان بلفور الذي يٌعد من أغرب الوثائق السياسية في التاريخ، حيث قامت حكومة بمنح ممثل الحركة الصهيونية وعداً بتمكينه من إقامة مشروعه على أراض دولة أخرى. وفي الثاني والعشرين من تموز 1922، أقر مجلس عصبة الأمم قرار انتداب بريطانيا لإدارة شؤون فلسطين، الأمر الذي رحبت به الحركة الصهيونية ونظرت إليه على أنه خطوة على طريق الاعتراف بالشعب اليهودي بوصفه يشكل قومية بدلاً من التعامل معه على أنه مجموعة أشخاص يتشاركون معتقدات دينية.
حين ننظر إلى الوراء نرى أن مأساة الشعب الفلسطيني لم تأت من فراغ، بل نتيجة عملية مدروسة ومنظمة مرت بعدة مراحل كان من أهمها التغلب على معارضة أثرياء اليهود في بريطانيا وفي الولايات المتحدة الذين قاوموا بقوة المشروع الصهيوني بوصفه لا يخدم سوى مصالح يهود بلدان أوروبا الشرقية، في حين يهدد مصالح اليهود الاندماجيين الذين تمكنوا من تثبيت مواقعهم في العالم الجديد.