جذور شيطنة الصين
ترجمة وإعداد: هيفاء علي
يرى الفيلسوف هيغل أن التاريخ ينتقل من الشرق إلى الغرب، ويقول: “أوروبا هي في الأساس نهاية التاريخ، وآسيا هي البداية”.
ما يدعو إلى استحضار أقوال هذا الفيلسوف هو الحرب الأمريكية، والعداء ضد الصين الذي تجلى بالحرب التجارية المسعورة، وكانت آخرها جائحة كورونا التي أتت لتصب الزيت على النار، حيث اتهمت الولايات المتحدة الصين بالوقوف وراء تفشي الوباء، وحمّلتها المسؤولية الكاملة عنه.
ورغم مبادرات الصين، إلا أن استراتيجية الأمن القومي في الولايات المتحدة مهووسة بـ “التهديدات” الثلاثية الرئيسية المتمثّلة بالصين وروسيا وإيران، وعليه، فإن خطاب شيطنة الصين القديم- الجديد لا يتم نشره فقط من قبل المسؤولين في مجمع وسائل الإعلام الصناعية العسكرية والمراقبة، بل تعود جذوره إلى فكر الولايات المتحدة القديم.
بعد عصر النهضة بكثير، أي في القرنين السابع عشر والثامن عشر، كان الدين هو الأساس في علاقات التجارة بين أوروبا وآسيا، وبما أن المسيحية كانت الديانة المهيمنة، كان أطباء الكنيسة منزعجين للغاية من حقيقة أنه في العالم الملموس يمكن لمجتمع منظم جيداً أن يعمل في غياب الدين، هذا الأمر أزعجهم أكثر من هؤلاء “المتوحشين” الذين تم اكتشافهم في أمريكا.
وعندما بدأت الكنيسة في استكشاف ما اعتبر “الشرق الأقصى”، كانت أوروبا غارقة في الحروب الدينية، ولكن في الوقت نفسه، كان عليها أن تواجه تفسيراً آخر للعالم، وهذا أثار بعض الميول التخريبية المعادية للدين في مرحلة عصر التنوير.
في هذه المرحلة بدأ العلماء الأوروبيون يشككون في الفلسفة الصينية لأنها هربت من شرائع الفكر اليوناني والأوغسطيني، لذلك كان لدى الفرنسيين نوع من الإعجاب الغامض، حيث اعتبروا الصين المثال الأعلى للمجتمع الوثني.
بعد ذلك، بدأت الكنيسة تفقد صبرها على افتتان اليسوعيين بالصين، ففي عام 1725 مُنع المسيحيون من ممارسة الشعائر الصينية، مع العلم أن الفلاسفة الجيوفيليين واليسوعيين الذين أدانهم البابا أصروا على حقيقة أن “الإيمان الحقيقي” (المسيحية) كان “مسبقاً” في النصوص الصينية القديمة، لاسيما في نصوص كونفوشيوس.
تم تصور الرؤية الأوروبية لآسيا و”الشرق الأقصى” بشكل رئيسي من قبل ثالوث ألماني قوي: كانط، هيردر، وشليغل، حيث كان كانط جغرافياً، وهيردر مؤرخاً وجغرافياً، وعليه، يمكن القول إن الثالوث كان رائد الاستشراق الغربي الحديث.
كان كانط وهيردر يعرفان الصين والهند واليابان، فبالنسبة لهما الله فوق كل شيء، وقد خططا لتطوير العالم بكل تفاصيله، وهذا يقود إلى مسألة العرق الحساسة، وفي كسر لاحتكار الدين، مثّلت الإشارات إلى العرق نقطة تحول معرفي حقيقي مقارنة بالمفكرين السابقين، على سبيل المثال، كان لايبنتز وفولتير ومونتسكيو وديدرو معتادين على كراهية الصين، ولم يفسر أحد الاختلافات الثقافية حسب العرق، حيث قام مونتسكيو بتطوير نظرية تعتمد على المناخ، ولكن لم تكن لها دلالة عنصرية، بل كانت أكثر من نهج عرقي.
جاءت القطيعة الكبيرة من الفيلسوف والرحالة الفرنسي فرانسوا برنييه (1620-1688) الذي أمضى 13 عاماً من السفر في آسيا، ونشر في عام 1671 كتاباً بعنوان: “وصف ولايات المغول العظمى، الهند، مملكة كشمير، إلخ”.
تم التركيز في ذلك الكتاب على لون البشرة، وليس على الأسرة أو المناخ، وعلى أساسه تم وضع الأوروبيين تلقائياً في القمة، بينما اعتبرت الأجناس الأخرى “قبيحة”، بعد ذلك، تولى ديفيد هيوم تقسيم البشرية إلى ما يصل إلى خمسة أعراق، مرة أخرى على أساس لون البشرة، أعلن هيوم للعالم الأنغلوسكسوني أن البيض فقط هم المتحضرون، والآخرون كانوا أدنى، وللأسف لايزال هذا الموقف واسع الانتشار.
لكن المفكر الأول الذي طور نظرية السباق الأصفر بالفعل هو “كانط” في كتاباته بين 1775 و 1785، قسم كانط آسيا حسب البلد، بالنسبة له، يعني شرق آسيا التيبت والصين واليابان، ووصف الصين بعبارات إيجابية نسبياً، كمزيج من الأجناس البيضاء والصفراء.
وبالنسبة له، كانت بلاد ما بين النهرين مهد الحضارة الغربية، وكانت جنة عدن في كشمير “جنة العالم”، كانت نظريته عن التطور التاريخي ناجحة للغاية في الغرب: كان الشرق مولوداً حديثاً، ومصر طفلاً، واليونان شاباً، كانت منطقة شرق آسيا التي تحدث عنها هيردر تتكون من: التيبت، والصين، وكوتشينشينا، وتونكين، ولاوس، وكوريا، وشرق تارتاري، واليابان، أي البلدان والمناطق المتأثرة بالحضارة الصينية.
وهكذا في القرن الثامن عشر، تم تكوين رؤية كاملة لآسيا كأرض العبودية ومهد الاستبداد والأبوية، في تناقض صارخ مع رؤية آسيا كمهد الحضارات، حتى أصبح الغموض هو المعيار الجديد، تم احترام آسيا باعتبارها أم الحضارات، بما في ذلك نظم القيم، وحتى أم الغرب، في الوقت نفسه، تم تحقير آسيا أو احتقارها أو تجاهلها لأنها لم تصل أبداً إلى مستوى الغرب العالي، على الرغم من تقدمها.
وهذا يقود إلى الفيلسوف هيغل الذي قرأ تقارير من اليسوعيين السابقين المرسلة من بكين، لم يكتب هيغل عن “الشرق الأقصى”، ولكن فقط عن الشرق الذي يشمل شرق آسيا، بشكل أساسي العالم الصيني، لم يهتم هيغل كثيراً بالدين كما فعل أسلافه، فهو يتحدث عن الشرق من وجهة نظر الدولة والسياسة، وعلى عكس شليغل، أحد مؤيدي الأساطير، يرى هيغل الشرق كحالة من الطبيعة تقترب من بداية التاريخ على عكس أفريقيا السوداء التي رآها كمستنقع دولة وحشية، قسم هيغل آسيا إلى قسمين: جزء منها يتكون من الصين ومنغوليا، وهو عالم طفولي، و الجزء الآخر كان Vorderasien “آسيا السابقة” الذي يجمع الشرق الأوسط الحالي، وآسيا الوسطى من مصر إلى بلاد فارس.
ولوصف العلاقة بين الشرق والغرب، يستخدم هيغل بعض الاستعارات، إحداها: “إن تاريخ العالم ينتقل من الشرق إلى الغرب، وبالتالي فإن أوروبا هي أساساً نهاية التاريخ، وآسيا البداية”، والاستعارة الأخرى هي لـ هيردر: الشرق هو “شباب التاريخ”، خاصة مع احتلال الصين مكاناً خاصاً بسبب أهمية المبادئ الكونفوشيوسية التي تميز دور الأسرة.
لا شيء مما سبق بالطبع هو محايد من حيث فهم آسيا، وهو الأمر الذي ورثته الولايات المتحدة من أوروبا النرجسية، وفي حالة الولايات المتحدة فإن الحرية التي أشار إليها هيغل لا وجود لها ما لم تأت بمبادرة قادمة من الخارج، وبهذه الطريقة فإن “الاستبداد الشرقي” الشهير الذي أثاره مونتسكيو، والتدخل المحتمل للغرب، يدفعانا للتأكد بأن هذه العقلية الغربية لن تتغير في أي وقت قريب، خاصة أن الصين على وشك العودة إلى الصف الأمامي.