حارس القدس
حســــــن حميد
حظيت بلقاء المطران كبوتشي في أثناء صدور روايتي مدينة الله، وكانت في عام 2009 خبراً يتداوله الأصدقاء، فذكر بعضهم روايتي أمامه، فقال أريد هذه الرواية لأرى ما فيها. فجاء صديق لي مبللاً بالفرح والحبور، وقال لي: المطران كبوتشي في الشام، ويريد روايتك. قلت: أخاف أن يلتبس الأمر عليه فيظن أنها كتاب رديف لكتاب القديس أوغســطين الذي يحمل العنوان نفسه. قال: لا! فأعطيته الرواية، وكتبت في صفحتها الأولى إهداءً يقول: هذه القدس تحت عينيك، وأنت حارسها المؤبّد. وقد استوحيت هذا الإهداء من قولة البابا للمطران كبوتشي: أنت مطران القدس ما دمت حيّاً!
بقي المطران كبوتشي مدة ليست بالقليلة في دمشق، وما كان لي لأفوّت فرصة السلام عليه والنظر إلى وجهه السمح الذي أحسست، ومنذ أن رأيته قبلاً، وجهاً يقطر نداوةً، ورضاً! هاتفت صديقي الذي أخذ إليه الرواية، كي نترافق في زيارته، فوافق، وذهبنا. كان محاطاً بسياج من محبيه، يتحدث، كعادته، بصوت خفوت كأنّ الكلمات تتجاور في الجملة الواحدة مثل حبّات الخرز.. كان يتحدّث عن سجنه، عن يوم واحد من أيام سجنه، وعن تعامل السجّان الصهيوني معه، ومنعه من الاختلاط مع السجناء الفلسطينيين والعرب الموزّعين على عنابر السجن، كنّا نحن القادمين إليه، نهبط حوله جلوساً أو نبقى وقوفاً مثل الطيور التي تأتي إلى نبعة الماء فتتزاحم حولها رفوفاً رفوفاً!
يومذاك، هزّتني رغبة عنيفة لكي أجري معه حواراً طويلاً حول أمور ثلاثة: حلب مولده ونشأته، والقدس والروحان الوطني والديني اللذان طوّقا حياته، والسجن وما فكّر به. فطرحت الفكرة عليه، ورجوته، أن يوافق، فقال: أعطيت مثل هذا الحوار لإخوة في لبنان، ولم أترك شيئاً إلا وقلته، ولا سيما عن حياة السنوات الصعبة التي عشتها في السجن، وأنا لا أريد أن أفسد على الإخوة اللبنانيين بهجتهم بالحوار، فقد غدا ملكاً لهم. وتطرّق، في حديثه القصير لنا، عن القدس التي تحتاج إلى صيحة عالمية في وجه محتليها الصهاينة كي لا يمعنوا أكثر في تهويدها لأن المستوطنات الإسرائيلية والكُنس اليهودية اقتحمت كل مقدّس فيها ومن دون خوف أو حرج، وأنّ سياسة بلدية القدس تعمل ليل نهار من أجل تهجير أهلها مسلمين ومسيحيين وبإغراءات مالية لا تخطر إلا ببال الشيطان، وهي إغراءات يومية وصلت إلى حدّ الخيال. فمثلاً، يوجد دكان صغير لأحد المقدسيين يطل على درب الآلام، يكاد لصغره، ولضيق مساحته، لا يرى، يبيع الصلبان والتذكارات المقدسية، دفعوا لصاحبه ملايين الدولارات كي يبيعه فرفض، وأعطوه شيكاً لكي يكتب الرقم الذي يريده وبنفسه، لكنه رفض. صاحب ذلك الدكان الصغير، الصغير جداً، كلما مررت به في وقت الظهيرة أراه يتناول غداءه: إما منقوشة زعتر وكباية شاي، أو كعكة مقدسية وكباية شاي، فأسأله عن الإغراءات فيقول: سيّدنا إنّها يومية، وأنا أقاومها بمنقوشة الزعتر، والكعكة المقدسية!
أقول هذا السطر الطويل، لكي أحيي صناع دراما حارس القدس، الذي يدور حول المهابتين الوطنية والروحية اللتين عرفهما المطران كبوتشي بوصفه “فدائي القدس” الذي قال: أريد لقدميّ أن تمشيا في درب مقاومة الظلم الصهيوني، وأريد ليديّ أن تسلّما على شهداء فلسطين واحداً واحداً، وأريد لوجهي أن يغتسل بالرضا القدسي حين أقابل الله! لقد كرمتني الكنيسة حين جعلتني راعياً لأهل القدس، وأردت بعملي مع الفدائيين الفلسطينيين أن أكرّم الكنيسة ببرّي لكل ما علمتني إياه، وفي المقدمة نصرة المظلوم، لأنّ ظلموت الصهاينة يخيّم على القدس، منذ أن أعطى أحد سلاطين بني عثمان فرماناً لغني يهودي ليبني مشفى في غرب القدس، فبنى عوضاً عنه الحي اليهودي، لا بل إنّ ظلم الصهاينة للقدس يتمثّل في دم كل شهيد، وفي أنّات كل جريح، وكل أسير أعطى عمره كلّه لفلسطين.
أحيي الكاتب الفذ حسن م. يوسف، والفنان الذهبي باسل الخطيب، وأسرة المسلسل، والجهات الراعية له، لأنّهم فدائيون أيضاً، يقتحمون بجسارتهم الوطنية.. سجوف العتمات والضلالات الراهنة، وقد باتت كثيرة… وأزيد!