حارس القدس في مواجهة أم هارون
منذ الإعلان الأول للمسلسل التطبيعي “أم هارون”، فاحت رائحة المؤامرة التي تستهدف أحد أخطر الفنون في منطقتنا العربية، وبالتالي المشاهد العربي الغارق في هموم لقمة العيش كانعكاس لواقع عربي مرير لم يتنبه يوماً إلى ضرورة السعي إلى مشروع قومي متكامل، اقتصادياً وسياسياً وتنموياً، مع وجود مقومات وإمكانيات تستطيع أن تصنع المعجزات فيما لو توافرت الإرادة السياسية الواعية، أما أن تصل الأمور إلى خيانة القضية الفلسطينية، وخيانة الهوية والوظيفة السامية للفن وأهدافه النبيلة، فهذا بحق انحدار وانزلاق إلى مهاوي الفضيحة الأخلاقية، ومع ذلك، وفي ظل قتامة المشهد، يبزغ عمل مقاوم يعيد إلى الذاكرة المسيرة المظفرة لحارس القدس وراعي فلسطين الذي تجاوز الدور التقليدي لرجل الدين لينخرط في العمل الاجتماعي والإنساني المقاوم لكل أشكال التعدي على القيم الوطنية والقومية والإنسانية، وينتصر للحق والكرامة والقضية التي باعها الكثيرون اليوم بأبخس الأثمان، بينما دفع المطران كبوجي حياته ثمناً لها في ظلام السجون وصقيع المنافي ليترك لنا في مذكراته المضيئة ما ينير دربنا إلى سواء السبيل فيما لو امتلكنا الإرادة وكنا أهلاً للمسؤولية الوطنية والقومية والأمانة،(حارس القدس) في ساحة المقاومة، وربما يكون الشرارة الأولى لانتفاضة شعبنا العربي ضد التطبيع ومشاريعه المتخاذلة.
لعل المتتبع للخارطة الدرامية هذا العام يستطيع أن يتبيّن دون عناء فقر الدراما وافتقارها إلى مواضيع جادة تلامس همّ العالم الغارق في مشكلات اقتصادية وسياسية واجتماعية كنتيجة للحروب والنزاعات المسلحة التي تشهدها الكثير من دول العالم، والتي أدت بشكل أو بآخر إلى انتشار الكثير من الأوبئة، وأخطرها اليوم كورونا الذي وإن لم يرتبط بشكل مباشر بتداعيات الحروب وآثارها، قد يكون السبب لفقدان التوازن البيئي، وتعدي الإنسان على مقدرات الطبيعة له دور في تفشي هذا الوباء الذي غيّر وجه العالم، وربما يسهم في تغيير مراكز القوى السائدة على سطح هذا الكوكب، ما ستكون له مفرزاته على إيقاع الحياة ومخرجاتها في مجال الاقتصاد والسياسة والثقافة التي يعوّل عليها في رسم ملامح المستقبل، وتوثيق الحوادث اليومية، وكل ما يعتري المجتمعات الإنسانية من أمراض.
وفي نظرة إلى تراثنا الأدبي والإنساني المادي واللامادي نستطيع اكتشاف أن الأدب والفن ليسا سوى انعكاس لواقع معاش كانت له مفرزاته على نمط حياة الإنسان، وما عاشه من نكبات ومجاعات وأوبئة كانت نتيجة لسياسات خاطئة اقترفتها دول قوية بهدف الاستحواذ على مقدرات العالم، وغزو الشعوب ثقافياً وفكرياً، واحتلال أراضيها والسيطرة على خيراتها.
فمن “سفر برلك” المجاعة الشهيرة التي افتعلتها السلطة العثمانية الغاشمة، وما حصدته من أرواح، إلى وباء الطاعون الذي أصاب أكثر من منطقة في وطننا العربي كفلسطين والجزائر، والحربين العالميتين الأولى والثانية، وما تبعهما من مشاريع تقسيمية لوطننا العربي، استطاع الأدب بجميع صنوفه: رواية وقصة وشعراً، وكذلك الفنون كالفن التشكيلي، والسينما، والدراما، والمسرح، أن توثق وتستلهم من حكاياتها الكثير، وتصور بعض وقائعها وأحداثها، ما شكّل ذاكرة جمعية لشعب مفجوع ما فتئ يواجه الكوارث والنكبات، ويعيش النزوح والتشرد وعذابات المنافي في أقسى تبدياتها، ويبقى السؤال: هل ارتقت هذه الفنون في معالجتها إلى مستوى الوجع الإنساني الذي مازال نازفاً على امتداد الجرح الذي بلغ ذروته في عام النكبة وزرع الكيان الصهيوني الغاصب في أرض فلسطين، وبداية عهد جديد من النضال والصراع الذي مازال دائراً في منطقتنا.
لعل (حارس القدس) في هذا الموسم الرمضاني الدرامي يتصدر قائمة الأعمال الدرامية التي تعيد إلى الذاكرة والوجدان بعضاً من لحظات التوهج والثراء الفكري والإنساني لشخصية نبيلة نحتاج اليوم إلى تعزيز وجود مثيلاتها، وبعثها من جديد استنهاضاً لثقافة المقاومة، وإذكاء لجذوة النضال الذي ما انقطع يوماً إلا ليبدأ من جديد بمزيد من الألق والسطوع جيلاً بعد جيل انتصاراً للقضية الفلسطينية، وللعدالة الإنسانية، وليؤكد دائماً أن البقاء للأنقى، وأن ما أُخذ بالقوة لا يسترد إلا بقوة الفكر والإرادة، وصفاء الضمير، فما تفرزه مشاريع التطبيع من أعمال سيسقط من ضمائر الشعوب، ويحسب في خانة الفن الساقط المقيت الذي ينصر البغي على الحق، والشر على الخير، وستبقى “أم عطا” في مواجهة “أم هارون” طال الزمن أم قصر.
كما سيبقى الفنان رشيد عساف متربعاً على قمة الهرم في أدائه اللافت، ومصداقيته النابعة من عمق ثقافته، ونقاء سريرته، وإخلاصه لشخصية المطران هيلاريون كبوجي التي أداها باقتدار نجم الدراما الرمضانية الساطع هذا العام وحتى إشعار آخر.
هدباء العلي