بو علي ياسين.. مثقف مستنير غيبه الإعلام العربي!
في قرية تقع إلى الشمال من مدينة اللاذقية السورية تدعى عين الجرب (كان الناس يعتقدون أنها تشفي من مرض الجرب، وكانوا يذهبون إليها ويغطسون في مياهها الضحلة).. هناك وُلِدَ بو علي ياسين عام 1942، وهذه القرية تقع على السفح الشرقي للنهر الكبير الشمالي.. اسمه الحقيقي ياسين حسن، والده أحمد، وكان أصدقاؤه يلقبونه “بو علي”، وعندما طبع الكتاب الأوّل، ثبت هذا اللقب عليه.
نشأ في القرية ثم غادرها إلى حلب ليدرس في مدرسة الراهبات الخاصة، وكانت الـ “Miss” تطلب منهم أن يجلسوا صامتين، ومن لا يجلس صامتاً ترسله إلى جب الفأر، وذلك بعد أن تدهن أذنيه بالزيت، كي تأتي الفأرة وتلحسهما، فيصمت التلاميذ، ويتكتفون. وباعتبار أن والده عسكري، متطوّع في سلك الجيش، فقد انتقل معه إلى حماة فالقنيطرة، وهناك خبر الحياة، لكنه فضل أن ينتمي إلى بساطتها وحريتها.
في دمشق، نال شهادة الدراسة الثانوية، وسجّل على منحة في مصر، لكن الانفصال بين سورية ومصر ألغى المنحة التي تحوّلت إلى ألمانيا الغربية، وهناك درس العلوم المصرفية، في جامعة ماينتس، عام 1962، وعاد إلى سورية ليعمل موظفاً في مديرية التخطيط، وانصرف إلى التأليف يطبع الكتب التي تجمعها ثقافة العصيان.
في سيرته الذاتية نجده تأثّر بأفكار الرئيس عبد الناصر، ثم بدأ بانتقاده وانتقاد سياسته، وانتمى إلى حزب البعث بعيد الانفصال عندما ذهب إلى ألمانيا، وساهم في الحركة الطلابية فيها، وحين عاد إلى سورية أصدر كتابه الأوّل “الثالوث المحرّم”، عام 1973، الذي أثار دوياً في الوسط الثقافي، وهزّ وعي جيل بأكمله. ويمكن اعتبار الكتاب بأنه إيجاز مكثف لبحوث طويلة تستغرق أزماناً من الدارسة والتوثيق والتعمق، تناول فيه الظواهر الاجتماعية والسياسية والثقافية الأكثر بروزاً وتأثيراً وعراقة لتطور المجتمع والفكر العربي، واعتبر كتابه الأكثر شيوعاً وشهرة في ذلك الزمان.
“أمّا أدبنا العربي الحديث فهو مؤدب جداً، إنه أدب مثقفين متعالين، وأدبنا القديم لم يكن هكذا، فهو أدب غير مؤدب، وخاصة غير المسجل منه. من المؤسف حقاً أن يكون إلى جانب تعليم مادّة التربية الدينية في المدارس فحص لها.. كيف يمكن للمرء أن يفحص في مدى إيمانه واعتقاده بدين معين”.
كان منشغلاً بمراقبة الناس، ليس لاغتيابهم أو للتضييق عليهم وعلى تفكيرهم، بل ليتمكن من فهم الحياة التي نحياها.
كتابه الثاني كان “الأدب و الأيديولوجيا في سورية”، بالاشتراك مع نبيل سليمان، وفيه فتحا المعارك الثقافية، وعبّرا عن اندفاع تنظيري في الحقل الأيديولوجي أكثر من طبيعة التفكير النقدي”.
قام بدراسة اجتماعية لمجتمع “ألف ليلة وليلة” في كتابه “خير الزاد من حكايات شهرزاد”، حيث كشف السيطرة التي يتم بواسطتها تنويم المجتمعات العربية.. إنه تاريخ القمع العربي للمرأة، يتكلم فيه عن أزمة المرأة العربية في المجتمع. وألف كتاب “عين الزهور” وهو اسم لقريته، فبدلاً من “عين الجرب” أحبّ أن يدلعها بهذا الاسم، وهذا الكتاب “سيرة مخالفة للأصول، إنّها ليست مجرّد سيرة شخصية، وإنما هي إلى حدٍ ما سيرة لمحيطي الاجتماعي”.
كتب فيصل دراج: “بو علي ياسين، أثر جميل من آثار مثقف نبيل، انتسب إلى زمن مضى، إنه المثقف الوطني المستنير الذي يرى في الثقافة مشروعاً وفي المشروع حياة وطنية واجتماعية جديدة”.
وله كتاب في أدب النكتة، فالنكتة والضحك، لها تأثيرات جسدية ونفسية واجتماعية، كمفعول أخلاقي وخلقي، ودليل انتصار الإيجابي على السلبي. فقد سأله أحد المثقفين: ماذا تكتب هذه الأيام؟ فقال: “أؤلف كتاباً عن أدب النكتة”، فرد عليه الآخر: “يا بو علي أنت أكبر من أن تكتب عن النكتة”. قال بو علي: “لم أجد في هذا الكلام إلا إطراء لي، فهل أنا أكبر من الجاحظ؟”.
وآخر ما كتبه كان “شمسات شباطية”، وهو أحد كتبه الممتعة والمفيدة، ويتصف باللطافة في الوسيلة والغاية؛ اللطافة التي كانت بدورها صفة بو علي ياسين الأشد طغياناً.. إنه ديوان في المفارقات العربية. لقد ردّ الاعتبار لمثقف غيبه الإعلام العربي طويلاً، قدّم أفكاره، وهذه الأفكار لا تموت بموت كاتبها، بل تحيا وتستمر طالما هو في ذاكرتنا.. إنّه المثقف الأخلاقي والإنسان الكريم، ذلك الغريب الذي لو كانت الكرامة شخصاً لكانته.
ألّف كثيراً من الكتب في الاقتصاد والسياسة، وله ترجمات عديدة في الاقتصاد، وكتب فكرية عديدة، بلغ مجموعها ثلاثين كتاباً.
فيصل خرتش