القوة التي تحتاجها أوروبا !
إعداد: عناية ناصر
قال الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية والدبلوماسي الإسباني الشهير جوزيب بوريل: إنه يتعين على أوروبا أن تتعلم لغة القوة في عالم جديد. خارج الاتحاد الأوروبي، استقبلت كلماته بالشك الذي تحول إلى حيرة وسخرية. ومع ذلك، فإن هذا النوع من المواقف سيكون سطحياً، ليس فقط لأن أوروبا ليس لديها قوة عسكرية كافية وإرادة سياسية لهذه السياسة، فالمراقبون يشككون في إرادة أوروبا في استخدام القوة، هذا إذا كانت قادرة على القيام بذلك، وإذا كانت الظروف الدولية تسهل سياسات القوة الأوروبية.
كما هو الحال مع روسيا، فإن تحول الثقافة الاستراتيجية لأوروبا يؤثر حتماً على موقفها من سياسة القوة والنفوذ والأخلاق والشعور بالعدالة. ففي حالة روسيا، في ظل الظروف الحالية، تشعر أوروبا بالحاجة إلى مراجعة بعض الأفكار التي ظهرت في الماضي عندما تمتعت الدول الأوروبية بلعب دور في هيمنة الغرب. من المحتم أن تؤدي هذه المراجعة إلى إثارة نقاش ساخن حول ما يمكن أن يمثل عنصر القوة في مشاركة أوروبا في السياسة الدولية، وكيف يمكن مقارنتها بأشكال السياسة الخارجية التي كانت الأكثر راحة بالنسبة لأوروبا في العقدين أو الثلاثة عقود الماضية. ومع ذلك أصبح الحديث عن تراجع التأثير الدولي لأوروبا وعدم قدرتها في المشاركة بحل أكثر الصراعات العالمية إلحاحاً على قدم المساواة أمراً شائعاً. أصبح رئيس فرنسا إيمانويل ماكرون من كبار المتحدثين الأوروبيين حول هذه القضية في العامين الماضيين.
ومع ذلك، فإن موقف أوروبا أكثر تناقضاً من موقف روسيا. كلاعب قوي، فإن أوروبا غير قادرة على العمل ككتلة واحدة، مع الحفاظ على هذا الدور في وقت واحد على مستوى كل دولة على حدة. في فترة ما بعد الحرب الباردة، كانت القوى الأوروبية الكبرى مثل بريطانيا وفرنسا، وبدرجة أقل، إيطاليا، نشطة بشكل دوري في استخدام القوة لحل قضايا السياسة الخارجية التكتيكية. كان أوضح الأمثلة على ذلك مشاركة أوروبا في عملية الناتو ضد يوغوسلافيا، وفي ليبيا في ربيع عام 2011. وتشمل الأمثلة المحددة الأخرى مشاركة القوات الفرنسية في النزاعات المسلحة في أفريقيا والتدخل المسلح المحدود لإيطاليا في ألبانيا في ربيع عام 1997. لذلك، سيكون من غير الصحيح القول: إن الدول الأوروبية فقدت تماماً رغبتها وقدرتها على استخدام القوة في الخارج. علاوة على ذلك، حتى الدول الصغيرة في الاتحاد الأوروبي مثل هولندا والدانمارك، وكذلك بولندا الأكبر والأكثر طموحاً، شاركت الناتو في عمليات الولايات المتحدة العسكرية منذ عام 1991، وشاركت الجيوش الأوروبية في غزو العراق عام 2003 وعملية الناتو في أفغانستان. بالطبع، لا تقارن هذه الأمثلة بكيفية استخدام الولايات المتحدة أو روسيا القوة لتحقيق أهداف سياستهما الخارجية. علاوة على ذلك، فإن القوة العسكرية الإجمالية لأوروبا وقدرتها على استخدامها في الممارسة العملية أقل بكثير مقارنة بقدرات هاتين القوتين العظميين أو حتى بالصين. وقد أبدت الأخيرة عزمها على تحقيق أهدافها بالقوة قبل 40 عاماً عندما تدخلت في فيتنام في عام 1979.
إن مسألة إنشاء آلية مشتركة للاستجابة العسكرية والسياسية والأدوات المعروفة نسبياً للوصول إلى الأهداف العسكرية قد أثيرت عدة مرات في معظم تاريخ أوروبا بعد الحرب. ومع ذلك، في كل حالة تم إنجاز القليل من الناحية العملية. ومع ذلك، فمنذ الحرب الباردة وحتى اليوم، تمكنت دول الاتحاد الأوروبي من إنشاء العديد من الآليات والإجراءات للاستجابة المشتركة للتحديات العسكرية وإنشاء بنية تحتية للاتحاد الأوروبي تتعلق مباشرة بالمسائل العسكرية. ولكن مرة أخرى، لم تكن نتائج هذه الجهود باهرة.
مثل روسيا، تتمتع أوروبا بتاريخ طويل وتقليدي في استخدام القوة لتحقيق أهدافها، منذ نهاية القرن الخامس عشر وحتى منتصف القرن العشرين، حافظت الدول الأوروبية على ميزة القوة في الشؤون العالمية ولجأت بانتظام إلى القوة لتحقيق أهدافها. وطوال 400 عام، كانت أوروبا أقوى قائد عسكري في العالم يمكنه فرض أفكاره عن النظام والعدالة على معظم البلدان الأخرى، باستثناء روسيا. تراجعت هذه القيادة وانهارت في القرن العشرين وأصبحت أوروبا الآن جزءاً من النظام الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة، لكن لديها قوات مسلحة أفضل من غالبية الدول المتوسطة والصغيرة في العالم. استفادت أوروبا من هذه الميزة بدعم من الناتو والولايات المتحدة حتى عندما تتعارض أعمالها مع القانون والأعراف الدولية. ترتكز ثقافة روسيا الاستراتيجية على مزيج دائم من الاهتمام بالجانب الإقليمي للأمن والبقاء. وفي الوقت نفسه تعتمد ثقافة أوروبا الاستراتيجية على القوة والقدرة طويلة الأجل على استخدامها بفعالية، بما في ذلك، وقبل كل شيء، في العلاقات الثنائية مع الدول الأوروبية الأخرى نفسها.
نتج عن الكوارث الأوروبية الكبرى التي حدثت في الفترة من 1914 إلى 1945 تغيرات جذرية في قدرة القوى الأوروبية على فعل أي شيء حيال مبدأ “ثيوسييديديس” “الأقوياء يفعلون ما في وسعهم والضعفاء يفعلون ما يسمح لهم به القوي”، داخل أوروبا نفسها. وكما لاحظ جوزيف باريل، فإن أوروبا تمكنت من خلق ثقافة فريدة من نوعها لتطوير التعاون وحل القضايا المتنازع عليها دون اللجوء إلى القوة المسلحة.
تعتمد فلسفة التكامل الأوروبي وممارستها السياسية على المساواة النسبية في الحقوق لجميع المشاركين. ولا تعتمد بشكل مباشر على إمكانات القوة الفردية الخاصة بكل دولة على ملاحظة أن عيوب هذا النهج يتم ضبطها بواسطة آليات صنع القرار في الاتحاد الأوروبي. على أي حال، يمكن للبلدان الأكبر الحفاظ على مصالحها الوطنية بفضل التمثيل الأكبر عند التصويت. لكن بشكل عام، تختلف طبيعة ومضمون السياسة الدولية داخل الاتحاد الأوروبي اختلافاً جوهرياً عما هو مقبول عالمياً. ويعد استخدام أدوات التكامل الأوروبية لتعزيز المصالح الوطنية للمشاركين أهم إنجازات أوروبا السياسية في النصف الثاني من القرن العشرين.
شكلت أوروبا بنهاية الحرب الباردة بيئة دولية فريدة من نوعها ضمن رابطة التكامل، تميزت برفض العنف واستخدام القوة. وتجلى ذلك بوضوح عند مقارنته بالتجربة التاريخية الدولية، بما في ذلك داخل أوروبا. ومع ذلك، فإن قدرة أوروبا على تنظيم الفضاء السياسي داخل الاتحاد الأوروبي ليس كقدرتها في تنظيم علاقاتها مع العالم الخارجي. بمعنى آخر، لا توجد هناك أدلة مقنعة على أن أوروبا قادرة بنفس القدر على التخلي عن نفوذها أو الاعتماد على هيمنة القوة في علاقاتها الخارجية كما فعلت داخل الاتحاد الأوروبي. والقيد الوحيد هنا هو الافتقار إلى الفرص العسكرية والسياسية والأدوات اللازمة للقيام بذلك.
وذلك لثلاثة أسباب أساسية على الأقل. أولاً، القوة العسكرية الأمريكية في المجتمع الغربي كبيرة جداً لدرجة أن الأوروبيين ليس لديهم سبب عقلاني في السعي لمجاراتها. كما أن عبء الدول الأوروبية بالالتزامات الاجتماعية تجاه مواطنيها لا يترك مجالاً كبيراً للميزانية لتغطية النفقات العسكرية مقارنة بدورها السياسي والعسكري في العالم.
ثانياً، لم يتعد التكامل الأوروبي أبداً على سيادة الدول الأعضاء فيه، ولا سيما السياسات الاقتصادية والأمنية التي تعتبر حيوية للحفاظ عليه. وبالكاد سيتخلى السياسيون الأوروبيون عن أسس السيادة في الشؤون العالمية.
وثالثاً، ليس لدى أوروبا أعداء حقاً. روسيا هي العدو الوحيد المحتمل لأوروبا، لكن القوة العسكرية الروسية كبيرة لدرجة أنها لا تترك للأوروبيين فرصة حتى لو وحدوا آلاتهم الحربية. طور الاتحاد السوفيتي قواته الصاروخية النووية وقامت روسيا بتحديثها، ما أزال التهديد العسكري من أوروبا إلى الأبد. حتى إن أي اشتباك عسكري مع الغرب سيشمل الولايات المتحدة، التي تقارن بروسيا، ما يجعل دور أوروبا في ساحة المعركة هامشياً.
أما بالنسبة للثقافة الاستراتيجية على هذا النحو، فلن نجد تغييرات كبيرة في موقف أوروبا تجاه الخارج ومؤسسات التعاون فيها، فقد أظهرت دراسة للعلاقات الأوروبية الروسية من 1991 إلى 2008 أن تصرفات أوروبا كانت تستند إلى ميزة موضوعية. منذ عدة عقود، أظهرت نظرية وممارسة العلاقات الدولية أن القوة ليست فقط إمكانات عسكرية وإنما مجمل الموارد الإجمالية لدولة أو مجموعة من الدول. في هذا السياق، تعد موارد أوروبا الاقتصادية والسياسية في السياسة الدولية كبيرة إلى حد ما، وقد استخدمها الأوروبيون دائماً.
لذلك، فإن مسألة ما إذا كان يمكن لأوروبا أن تستغل إمكاناتها في مجال القوة، وتستمد فوائدها من مزاياها ليست مسألة محورية مطروحة في البحث في مستقبل أوروبا في السياسة العالمية. لقد فعلت ذلك طوال تاريخها، لكن المشكلة الرئيسية هي فهم فئة النفوذ على هذا النحو وارتباطه بالقدرة على جعل وجهات نظرها الخاصة في الأخلاق والعدالة عالمية نسبياً. أوروبا ليست ضعيفة. لا يزال لديها موارد اقتصادية وسياسية مقنعة، لكن تكمن المشكلة في قدرتها على تحويل هذه الموارد إلى قوة سائدة في الأخلاق والقانون.
في الوقت الحالي، تبحث أوروبا عن إجابة عن طريق تعزيز التضامن الداخلي وتعزيز وجهة نظر مشتركة. في شباط الماضي، طالب بوريل بتضامن أوروبي أكبر بشأن القضايا الحيوية للأمن الدولي والإقليمي. لكن اختلفت مواقف الدول الكبرى في الاتحاد الأوروبي بشكل كبير حول قضية ليبيا، خاصة فيما يتعلق بدعم مختلف الجماعات التي تتقاتل من أجل السلطة هناك. هل يمكن لرغبة أوروبا أن تنعكس في موقف مشترك حقاً لتغيير صورتها في العالم وإجبار شركائها الأجانب على معاملة الاتحاد الأوروبي بجدية أكبر؟ وحده موقف الأوروبيين من جهودهم المشتركة سيجعل من الممكن الإجابة عن هذا السؤال. ربما تبحث أوروبا عن مفتاح موقعها العالمي في المكان الخطأ. ويبدو الأمر وكأنه بحث عن شيء ما تحت الفانوس فقط لأنه مكان مضاء.