بعد خراب البصرة
د. نضال الصالح
في السرديّات العربية القديمة أنّ أعرابياً وطئ إزار الأمير الغسّانيّ جبلة بن الأيهم وهو يطوف بالبيت، فما كان من جبلّة إلا أن هشّمَ أنفَه، فشكى الأعرابيّ أمرَه إلى عمر بن الخطّاب الذي خيّرَ جبلة بين أنْ يُرضي الأعرابيّ أو يقتصّ الأعرابيّ منه، فيهشّم أنفه، فوقعَ ذلك على جبلة وقعاً شديداً، وقال لعمر: كيف ذاك؟ هو سوقةٌ، وأنا عرشٌ وتاج. ثم طلب إليه أن يمهله إلى الغد، ثمّ غادرَ، وحاشيته، تحت جنح الظلام، ولحقَ بقيصرَ، ثمّ ندمَ أشدّ الندم بعد هزيمة الروم.
وفي الشعر والنثر الكثيرُ من الأخبار والمرويّات التي تستعيدُ إلى الذاكرة ما تواتر عن العرب من قول في الندم، وفي كنيتها عن الندامة بأمّ العجَلة. ومن ذلك: ولاتَ ساعةَ مندم، وندامة الكُسعيّ، وأحمقُ من غبشانَ، وسوى ذلك ممّا يعني، مرجعاً ودلالة، أنّ العقل خيرٌ وأبقى، وأنّ الهوى شرٌّ وأظلمُ. فكيف إنْ كان هذان المتضادان، العقلُ والهوى، يعنيان وطناً؟!
حسَنٌ، بل واجبٌ، أن يراجعَ المرءُ، أو يقومَ بجردة حساب مع موقف منه، أو مواقف، فيصوّبَ خطأ أثِمَ به، بل أن يقرعَ الأسنانَ ويعضَّ البَنانَ كما كانتِ العربُ تصفُ حالَ النادم. وأحسنُ الحسَن، بل واجبُ الواجب، أن يقترنَ فعلُ الانتقال من الخطأ إلى الصواب بالصدق، فلا يكون بسبب من هزيمة الخطأ، بل بسبب من الانتصار للحقّ.
لقد أمعنَ بعض المثقفين العرب في التصفيق للزيف العربيّ الذي اختار صانعوه مفردة الربيع علامة ضالّة له، وفي تمجيد ما زعم أولئك أنّه ثورات، فأتخموا الفضائيات، والصحف والمجلات، والدوريّات التي نبتتْ بسرعة، كما تنبتُ الأعشابُ الضارّة، كما أتخموا صفحاتهم في مواقع التواصل الاجتماعيّ، بالسوقيّ من العبارات، واللعنات، والعهر، والبغاء، ورؤية الواقع بعين واحدة، والأكاذيب ضدّ الآخر المختلف، والتهليل والتكبير للدم، والموت، والدمار، ثمّ ما لبثوا أن صمتوا، ليس امتثالاً للحقّ والحقيقة، بل خوفاً من خروجهم من المولد كلّه بلا حُمّص، بعدَ أن شُبّه لهم بأنّ أيّاماً، أو أسابيع، أو شهوراً، ويكون لهم مقعدٌ في عربة النظام العربيّ الجديد، فكانَ شأنهم شأنَ الأعرابيّ في حكاية المثل العربيّ القديم: رجعَ بخُفّيّ حُنين.
في العامية مفردةٌ بديعة، وفصيحة، هي “التكويع”، ويُقصَد بها استدارة الشخص نحو جهة مفارقة للجهة التي أمعنَ السيرَ فيها، ولقد أثبتَ هذا الزيف العربيّ أنّ أكثر العرب طواعية للتكويع همُ المثقّفون، الذين لم يتورّع، القليلُ منهم أو الكثير، عن نقل البندقية من كتف إلى آخر.
وبعدُ، أفلا يصحّ أن يصيرَ صدرُ الخطبة المشهورة عن الإمام عليّ، كرّم اللهُ وجهه، في وصف أهل البصرة، الذين كانوا قعدوا عن نصرة الحقّ، في وصف هؤلاء: كنتم جنْدَ الزيف، أو المال، أو الوهم، أو الأوهام، وأتباعَ الشيطان. رغا، فأجبتم، وعُقرَ، فهربتم. أخلاقكم دِقاقٌ، وعهدكمُ شِقاقٌ، وكلمتكم نفاقٌ، وصوتكم زُعاق.
وبعدُ أيضاً، وقبلُ، وأبداً، فما ينفعُ الصمتُ بعد عقر الناقة، أو الندمُ بعد خراب البصرة؟!