“من سيرة الغمام والظل”.. لغة مُدهشة وصور شعريّة مبتكرة
سبع مجموعات شعريّة حصاد الصديق الشاعر عباس حيروقة، كان آخرها (من سيرة الغمام والظل) الصادرة عن الهيئة العامة السورية للكتاب عام 2019 تقع في 147 صفحة من القطع المتوسط تضم اثنتين وعشرين قصيدة متنوعة مابين العمودي والتفعيلة والنثر، لكن ما يجمعها الهم الوطني، الذاتي، الاجتماعي، الإنساني، بلغة شفيفة وروح وثابة، بعيداً عن الملل والتكرار، ما يميز شعر حيروقة وجود الماء كعمود فقري بدلالاته الحسيّة والمعنوية في كلّ مجموعاته السابقة، سواء بطريقة مباشرة أو من خلال الرمز، فمعظم عناوين المجموعات السابقة تحمل هذه الإشارة مثل (تراتيل الماء، قيامات الفرات، شغب الضفاف، ماء وأعشاش، محزونة القصبات ضفة نهرنا، صلاة البياض الكثيف، من سيرة الغمام).
من يقرأ هذه المجموعة يدرك جيداً الإضافات الجديدة في مسيرة الشاعر من خلال اللغة المدهشة والصورة الشعرية المبتكرة، إضافة للأسلوب المميز الذي يتعامل فيه الشاعر مع القصيدة وكأنها أداة طيعة سهلة يقدمها للقارئ بحرفيّة وإتقان.
قسّم الشاعر المجموعة إلى قسمين رئيسيين الأول: أسئلة ُ الفصول والقسم الثاني: أجوبة الماء
في أسئلة الفصول ثمّة أسئلة ملحّة تحمل روافع ذاتية بدلالات هي أقرب ما تكون حالات صوفيّة تعبّر عن مكنونات النفس.
أنا والكروم ُ ونجمُ المساء/ يُربّتُ ضيفي على باب ِ دنّ/ فتقرعُ وجهَ/ السماء نجوم/ لتشهد كيف تجيءُ/ الندامى كسرب ِ الفراش/ تشفُّ طويلاً طويلاً/ فأيٌّ نديم/ وأيٌّ مُدامُ؟!) ص 16-17
في قصيدته. العموديّة (هاموا بنوركَ يا ربّاهُ أم تاهوا؟!) يبحر الشاعر في أمداء واسعة من التأمل الراقي والبوح الدفين، هي مناجاة روحيّة تتقاطع فيها الصور والمعاني لتشكل لوحة متناغمة، أصيلة تعبر عن! الأحاسيس النبيلة.
(سرب ُ الحمامِ.. يمام ُ الأرض تتبعهُ/ هذا الغمامُ.. وذاكَ النجمُ يغشاهُ/ يطوفُ في ثملٍ فالنور غيّبه/ تبكي الدروايش في نُسك ٍ لمرآه) ص(21)
ويتوقف الشاعر في محراب الطفولة وذكريات الزمن الجميل، حيث البراءة، العفويّة، البساطة، القلب يبدأ بالنبض، يسافر في عوالم جديدة، عوالم الحب العفوي، المعنوي الآثر (فيجفل القلب) يخرج من بوتقته ليفيض حبّاً وجمالاً …
(نعدو الدّروب على إيقاع صيحتنا/ والفخ في يدنا..المقلاعُ إن نشبا/ هلاّ تعودين يا. أيام صبوتنا/ نُعمرُ العُمر َ بالماء الذي عَذُبا/ ونحملُ الطينَ في لطفٍ وفي دعة/ فتحلفُ الشمسُ أن تصلى بنا لهبا) ص 35
في قصيدته (فراغ) والتي أهداها إلى الأديب عبد الكريم الناعم في لوحاته (مدارات) وكأنه ينثر عبقاً، حبقاً في دروب (الشيخ) إذ ثمة علاقة روحية، إنسانية مع الناعم والذي قبس من حجارة حمص السوداء صهيل حروفه وشذى بيانه.
(ورفعتُ صوتي بالغناء/إلى البعيد/لا لم تكن تلك البراري/في رحابتها فراغات/للوحة خالقي من/دون ِ هاتيكَ النساء/ال (وزّعتنا) حولها/تمشي إلى/صبح ٍ جديد) ص 57
ويفرد الشاعر مساحة تليق بوطن الشمس، وطن البطولات، وطن الأباة، سوريتنا، يقول بفخر واعتزاز. (أنا السوري/(أنا الريح ُ أهدي لأرضك نبضي/وازرًُ تُربك غيماً..مطر/فأنتِ النقيّة ُ كالياسمين/بياض ُالخليقة فيكِ استتر/فراحَ يحط ُّعلي كلّ بابٍ/وراحَ يضوع ُ هُدىً وعِبر) ص 87
يبدأ الشاعر أجوبة الماء بقصيدة (من سيرة الغمام والظل) عنوان المجموعة، حيث الإجابات النهائية المقنعة لأسئلة الفصول التي راودت مخيلته وفكره وعقله، وبلغة الإيحاء والرمزية يقدّم إجاباته بشفافية مذهلة.
(هو الغمامُ/ يرفعُ السماءَ براحتيه/لئلا تضيق ُعلى/شهقة العاشقات/يخلعُ قُمصانهُ ويسالُ الرعدَ/عن إرثه/المكدّس/على طاولات الطفولة/يترك ُما بجعبته/من أهازيج َوعتابا تغادره..) ص116
ثمّة أسئلة لا تنتهي، ولا يكفّ الشاعر من طرحها، هي أسئلة الوجد الأول، العشق الأول، الحب الأول، وتنداح الأجوبة متناغمة متفاعلة علّها تطفئ لهيب الروح وهي تعانق وجوه من عبروا، هي مطر الذكريات وربيع الأوقات المتبقية.
(تزرعين بأثوابي/سلالم عشقٍ/تصعدُها الأنامل/والنهود الممعنة/في الياسمين تشُفُ/فأورق/تنشرين فوقي شفتين/ممعنتين بالندى/ولساناً فراتاً/فيعشبُ أناشيد/عصافير/وقوس قُزح) ص122
ص-2- من سيرة الغمام والظل
في رحلة الانتظار ثمة انزياحات تجعلك غارقاً في التأمل، هي رحلة العمر الآفل، هي الحياة (انتظار) في محطاتها المتتالية، انتظار الحبيب،المسافر، الطرقات، الدروب، الحافلات، هي الحياة رحلة انتظار لا تنتهي.
(انتظرُ من وطني/كفناً مضرجاً بتهويدة أمي/بنعناع سواقينا/ال مشيناها حفاةً/انتظرُ قبراً مكتنزاً بنهودِ/هاتيك النساء/ قبراً لا يتسع/ لسواي) ص134
(من سيرة الغمام والظل) مجموعة شعرية جديرة بالقراءة، هي إضافة جديدة معنىً ومبنى في مسيرة الشاعر حيروقة، حيث التجدد والإدهاش بلغة رمزية بعيدة عن التكرار .
حبيب الإبراهيم