دراساتصحيفة البعث

أبو شوشة.. مجزرة ماثلة في الذاكرة العربية

د. معن منيف سليمان


تعدّ قرية أبوشوشة من بين أربعمئة وخمسين قرية فلسطينية دمرها العدو الصهيوني عام 1948م، وهي تشترك معها في قدر ومصير التدمير والإبادة الجماعية التي يمارسها هذا العدو منذ احتلاله أرض فلسطين العربية، ذلك التدمير والإبادة لم يأت بفعل الأحداث التي ترافق الحروب وويلاتها، وإنما نتيجة لمخطط مدروس يستهدف أرضاً تضم عرباً يجب اقتلاعهم لصالح الاستيطان الصهيوني.

ففي فجر يوم 14 أيار عام 1948م، شنّت وحدات من لواء جفعاتي هجوماً وحشياً على قرية أبوشوشة التي تقع إلى الشرق من مدينة الرملة بهدف احتلالها وطرد أهلها. كانت تلك بداية مذبحة رهيبة مجهولة لم يكشف النقاب عنها لسنوات طويلة حتى شهر آذار عام 1995م، حين أصدر مركز الأبحاث في جامعة بيرزيت في الأرض المحتلة كتاباً عنها ضمن مشروع المركز الخاص بالقرى العربية التي دمرت عام 1948م، والكتاب خاص بقرية أبوشوشة قضاء الرملة، وقد جمعت مادته من شهود عيان الذين بقوا على قيد الحياة. تلك المجزرة التي راح ضحيتها نحو ستين شهيداً من النساء والرجال والشيوخ والأطفال، المحظوظون منهم قتلوا رمياً بالرصاص فرادى، أو جماعات صفّوا أمام الجدران، أما الآخرون فقد فلقت هاماتهم بالبلطات في أزقة القرية أو داخل البيوت، حيث لمحت عيونهم في انفراجتها الأخيرة، وعن قرب، التعبيرات الوحشية عديمة الإنسانية لوجوه قاتليها.

وقعت مذبحة أبوشوشة عشية موعد انتهاء الانتداب البريطاني (يوم 14 أيار) وبينما القادة الصهاينة يعدون عدتهم الأخيرة لقيام الدولة، كانت شوارع ومساكن قرية أبوشوشة ما زالت مخضبة بدم العشرات الذين قتلوا أو قطعت رؤوسهم بالبلطات، ولم تكن تلك الدماء قد جفّت بعد. كانت المذبحة بحجمها وأبعادها المأساوية صدمة مذهلة لأبناء القرية فاقت بكثير أبشع كوابيسهم. ففي 13 أيار عام 1948م، ونتيجة المذابح والذعر والهلع الذي لفّ فلسـطين، فرضت معادلة “الموت أو الرحيل”، فإن أهل أبوشوشة ـ وعلى الرغم من معرفتهم بما يمكن أن يصيبهم ـ اتخذوا قرار البقاء: البقاء في منازلهم والدفاع عن ديارهم.

وبدأت عملية “تطهير القرية” وقتل عدد من الطاعنين بالسن في أزقة القرية، حيث لم يشفع لهم شيبهم أو شيخوختهم. وقتل الرجال بالبلطات وبعضهم بالرصاص. وبعد مرور ثلاثة أيام سمح بدفن الشهداء وقد هرعت النسوة إلى دفنهم، حيث جمعن بعض الجثث في الخنادق التي كانت معدة للدفاع، ووضعن جثثاً أخرى فيما تيسر من حفر، واكتفين بإهالة التراب على الباقين.

كان هناك قرار صهيوني بتهجير سكان القرية، لذلك استمرت عمليات القتل ودبّ الرعب في نفوس الأهالي. يذكر في هذا الصدد أن طفلاً صغيراً لا يتجاوز عمره العشر سنوات كان مع أمه في إحدى المغارات، وبعد ساعات من السماح للنساء بالذهاب إلى بيوتهن أخذ أحد القتلة الطفل وأمام عيني أمه رفع بلطة وانهال بها على رأسه فانفلق ومات الولد على الفور. تقررت عملية الترويع على هذا النسق حتى جاء اليوم الذي نودي فيه على من تبقى من سكان القرية لكي يخرجوا من دورهم، وحين استجابوا وجدوا أنفسهم محاصرين بين صفين من الجنود، وطلب منهم مغادرة البلدة باتجاه قرية القباب الواقعة شرق أبوشوشة، ولم يسمح لأحد بأن يحمل شيئاً معه، وأرغم الجميع على السير باتجاه واحد فقط. ولحثّهم على الإسراع بالخروج شرع أحد جنود الصهاينة بإطلاق الرصاص بين أرجلهم فأصيب كثيرون وأجهضت سيدات وهرول الجميع هرباً من الموت. ولم يسمع أحد بالمجزرة سوى سكان القرية القريبة التي آوت من تبقى من أهل أبوشوشة.

ومن الملفت للانتباه، أنه في تمام الساعة الواحدة ظهراً من 14 أيار 1948م، أي بعد عدّة ساعات من اكتمال مجزرة أبوشوشة في ضحى ذلك اليوم كان مجلس قادة الصهاينة يصادق في تل أبيب على وثيقة إعلان “دولة إسرائيل” على أرض فلسطين، وكانت الوثيقة تعدُ سكان الدولة العرب والتي كان أهل أبوشوشة ضمن حدودها بالمواطنة التامة القائمة على المساواة والتمثيل المناسب في جميع مؤسسات الدولة.

وبالنهاية محيت القرية من الوجود وتحوّلت أرضها الآن إلى حدائق مزروعة بالخوخ والبرقوق تابعة لمستوطنة زراعية باسم “كرمي يوسف” وأقيمت في تخوم القرية أربع مستوطنات أخرى. أما منحدراتها الجبلية فإنها مزروعة الآن بأشجار المشمش، لكن مذبحة قرية أبوشوشة لم تمح من ذاكرة الفلسطينيين وأحرار العرب ولم تعد مجهولة لديهم، وستبقى هي والمذابح الأخرى شاهداً على وحشية الإرهاب الصهيوني الذي يمارس ضدّ الشعب العربي في فلسطين منذ قبيل قيام الكيان الإسرائيلي الإرهابي حتى الآن.