الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

حرير روح

سلوى عباس

استجمعت كل ما تختزن له في روحها من حب وإحساس وخطت له رسالتها الأولى على ورق ملون بالربيع.. حيث كانت تكنولوجيا الرسائل لم تشوه نقاء أرواحنا، فكان الورق يحمل في حبره بعضاً من عبقنا وأرواحنا. كتبت: وددت لو أن لي جناحين من ضوء وريح.. أسافر هناك.. أجمع حب العالم كله وأنثره على روحك، فتضيء الشموس، ويعبق الياسمين، مرتلاً لك أنشودة الحب.. لو تدري كم أحتاجك.. كم أحتاج أن تربت على قلبي المتوتر كي يعود إلى صوابه.. كم أشتاق همسك الذي يجمعني من شتاتي، ويسكب في روحي بريقه الرائع فيحيي نسغها، فغنيني أنشودة حب لأتمازج بألوان طيفك وأنبت في سهوب قلبك أقحوانة برية عطشى لربيعك يوقظ فيها الحياة..

لم يصدق أنها كتبت له فراح يقرأ الرسالة بشغف من أضناه البعد وعندما انتهى جلس ليزخرف لها وجده واشتياقه ببريق عينيه متباهياً بكلماتها فكتب:

يخال لغيري أنه مجرد ورق، لكنه ورق من جلال الحس مخطوط بماء الود.. كيف تحولت فيّ حروفه إلى ضياء وأقواس قزح، وتكونت ثناياه بيارق من ألق.. خفقت في شراييني أغانيها وأطلقت في مسامي احتفالات الفرح.. كيف لونت يومي بسنائها البهي، موسيقى لأجنحتي وأناشيد راقصة لدمي.

كلمات قليلة خطها النور على الحرير.. ورق من روح وحنين لامس أصابعي فانبجس بينهما غدير ماء العشق غمرني حتى الغرق.. لاشيء كان بمقدوره أن يوقف اشتعالي ولا البحر، لاشيء يسكن هذه الروح عن التواثب بين اللهفة والارتعاش.. بين مسرات بحجم الربيع وبين التماهي في زرقة الحروف ولون السماء.

****

في أول سفرة من عام الحب كتب لها: أعرف أن وداعك محزن.. لكني أتيت.. وأعرف أني لن أتعوده، لكني دائماً كنت أقف على رصيف المحطة أتابع حركتك.. وأرقب يدك تلوح لي من فوق الكرسي فيلوح ما تبقى لدي من روح.. أقف أعب من صورتك مؤونة لأيام ستغيبين فيها عن العين.. ثم أطلق وراءك ملاكا حارساً يحمي خطوك ويدعو دائماً لك بسلامة الإياب.. ويهدل فوقك أمنيات السعادة..

كأنك.. وعلى غفلة مني انسربت من بين جفني صورتك البهية.. وكأنك حملت حقائبك وثنايا فستانك ونسيتني وحيداً في المحطة لا يؤانسني إلا دفء عميق بقي في يدي.. الأمكنة موحشة.. والزمن بطي.. لا أجد فيه مؤنساً غير أن أعد الثواني فأخطئ في العد لأعود من جديد عسى أن يمر الوقت بالسرعة التي أوّد ويقرّب لحظة تعودين فيها.. هدير الحافلة يعلو في المكان ثم يخبو  بعيداً.. يغيب الهدير.. تغيب صورتك عن العين فتشتعل صورة القلب.. ويبدأ اتقاده الشوق.

بعد غيابات سبعة ذهبت إلى العمل.. دلفت إلى مبنى كبير من الرخام البارد.. هكذا أراه حين لا تكونين فيه، وحين لا تزين جنباته رنة جنانية من صوتك، وقفت إلى النافذة.. لهف قلبي بشدة.. ظل لشخص يشبهك.. يواريه الجدار الطويل الذي ينحدر على طول شارع بعيد.. وللحظة انجلى الجدار عن اخضرار قميصك الربيعي، واشتعلت شموس الروح هنا على النافذة. تسارعت الأمكنة فجأة تحت قدمي.. وتتالت الوجوه مسرعة أمامي، لقد انزاح المكان عن صلابته واكتسب مرونة الهواء.. طفق القلب منهمراً يدق الثواني ويسبق الوقت إلى سروره العائد.. الجدران طُليت بالزهر والأرض فُرشت أركانها بالعشب.. والسقوف لونت زرقتها ببحر، وكان الهواء.. كل الهواء ياسمينة.. ولثوان صرت في مرمى لقاءك وكان اشتعال السمع حين انساب إليّ صوت خطواتك في الممر، موزونة دونما نشاز، مسرعة كعادتها.. لهفت للعدو حثيثاً إلى مصدر الموسيقا.. فكنت أنت.. كانت بي رغبة أن أضمك إلي وألغي الأرض من تحتك.. وفي غمرة ذلك الفرح الرغيد، أهمس في قلبك.. يا إلهي شو  اشتقتلك.. فأي النساء تستحق كل هذا الشوق؟ وأي قمر سواك يشتهى النظر إليه.. لا أحد إلاّك يليق به هذا الوجد.. فافتحي نافذتك الموصدة واستقبلي غيمتي الماطرة كما لا يكون الشتاء ولا يكون المطر.