من الرومانسية إلى المقاومة.. فدوى طوقان شاعرة فلسطين الأولى
خرجت الشاعرة فدوى طوقان من شرنقة الذات والحديث عن المرأة المقموعة، والمكبوتة المشاعر في مجتمع شرقي ذكوري، إلى النظر حولها وإرهاف السمع لدبيب المقاومة في عروق الناس تحت الاحتلال، كانت امرأة مغموسة بالحب والعاطفة الإنسانية الدافقة، وذلك ما تجلى في شعرها الذي كتبته طوال ما يزيد على نصف قرن، لتكون من بين شعراء الصف الأول في الوطن العربي خلال النصف الثاني من القرن العشرين، فقد كان شعرها في انعطافته خلال السنوات الأولى من خمسينيات القرن الماضي، مفصلاً أساسيا في انبثاقة شعر التفعيلة في تلك الفترة، حيث لم يكن شعرها بعيداً في رومانسيته وانشغاله الذاتي من شعر نازك الملائكة .
تنتمي فدوى طوقان إلى الجيل الثاني في الشعر الفلسطيني بعد أخيها إبراهيم طوقان وأبي سلمى وعبد الرحيم محمود، وكانت على صلة عميقة بهذا الجيل الذي أرسى دعامات الشعر الفلسطيني في القرن العشرين، وكانوا معلميها وعلى رأس من شجعوها على الكتابة وصقل موهبتها وتحدي البيئة العائلية والاجتماعية التقليدية التي وقفت ضد تعليمها وفي وجه كتابتها الشعرية، كما أشرعت أمامها الأبواب لتتصل بالقامات العالية في الشعر والثقافة العربيين لتكون اسماً لامعاً بين هذه الأسماء خلال فترة قصيرة.
تأثرت فدوى طوقان في بداياتها بأخيها إبراهيم طوقان الذي رعاها شعرياً وشجعّها على الكتابة وكان نافذتها المفتوحة على تراث الشعر العربي القديم وكذلك على الشعر الحديث الذي كان يكتب في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي. لقد كان عالمها الشعري أقرب إلى التعبير عن التجربة الأنثوية، والأحزان التي ترافقت مع هذه التجربة والجدار السميك الذي تصطدم فيه في مجتمع تقليدي مغلق.
لقد ظل الأفق الرومانسي يحاصر الشاعرة في مجموعاتها الشعرية الأولى التي صدر معظمها في العقدين الخامس والسادس من القرن الماضي، لتنتقل في مجموعتيها الشعريتين “الليل والفرسان”، و”على قمة الدنيا وحيداً” إلى الكتابة عن بزوغ شرارة المقاومة الفلسطينية والتفاعل مع العالم الخارجي. فأضحى شعر فدوى طوقان ينبثق من الألم الفلسطيني العميق بعد نكبة 1948، ولم يكن بعيدا عن التفاعلات السياسية والاجتماعية لضياع فلسطين.
في مجموعتها الشعرية الأولى “وحدي مع الأيام” تسافر الشاعرة في عوالم رومانسية مبهمة، وتتوحّد مع الطبيعة الملهمة الأولى للشعراء الرومانسيين، وتغلب هذه الروح الرومانسية الغامرة على قصائد المجموعة، التي كتبت معظم قصائدها في فترة الأربعينيات من القرن الماضي، وكان ثمرة اتصال فدوى طوقان بالتيار الرومانسي في الشعر الغربي. لكن هذا الخيال الرومانسي المحلّق لم يمنع فدوى طوقان من الالتفات من حين لآخر إلى النكبة الفلسطينية وما نشأ من مأساة إنسانية، وحاولت فدوى طوقان أن تُعّبر عن التراجيديا الفلسطينية انطلاقاً من مآلات إنسانية محددة، ومن هذا الأفق يمكن مقارنة قصائد “بعد الكارثة” و”مع لاجئة في العيد” و”رقية” – وهي قصائد تنطلق من الغم الرومانسي للعالم والبعد الإنساني الذي يغلب على شعر فدوى طوقان بعامة- أن الرؤية الشعرية في قصائدها مشغولة ضمن أفق الرومانسية العربية، ويصعب عليها حتى في أحدث قصائدها الانعتاق من ذلك الأفق، والنظر إلى العالم نظرة واقعية. ولا يختلف شعرها في مجموعاتها الشعرية إلا في نوسان شعرها بين قصائد حب رقيقة وقصائد منشغلة ضمن الأفق الرومانسي نفسه في التعبير عن الحوادث والحكايات الفلسطينية، وكذلك عن القضايا القومية، ففي مجموعتها الشعرية “وجدتها” تبدو الشاعرة مشغولة بالتجديد على صعيد الشكل أكثر من مجموعتها الشعرية “وحدي مع الأيام” لأن المجموعة الأولى مكتوبة بتأثير الشعر الفلسطيني في العشرينيات والثلاثينيات، وفي أفق الرومانسية العربية في تلك الفترة، أما المجموعة الشعرية الثانية للشاعرة فهي نتاج الاتصال بروّاد القصيدة في الخمسينيات والنشر في المجلات التي احتضنت القصيدة العربية الجديدة وتفجراتها الشكلية. ورغم عودة فدوى طوقان إلى التوزيع السطري الذي يحتفظ بشكل القصيدة العمودية في كثير من قصائد مجموعتها الشعرية “وجدتها” لكن الشاعرة تبتعد في معظم قصائد هذه المجموعة عن الروح الرومانسية الهائمة، وثمة خيط رومانسي ينتظم القصائد لكن الموضوعات متصلة بالواقع المحيط وبالأحداث الوطنية القومية.
إبراهيم أحمد