الأسواق الشعبية بين التطلعات والمعطيات.. قراءة اقتصادية
التوجّه الرسمي الذي نشهده مجدداً، باتجاه إحداث أسواق شعبية في مراكز وحدات الإدارة المحلية (مدن – بلدات – بلديات)، والتوجّه الشعبي باتجاه التسوق من هذه الأسواق، ظاهرة إيجابية جداً ولها منعكساتها الجلية على المنتج والمستهلك معاً، وخاصة حال اشتملت على المنتجات الزراعية والحرفية والصناعية وبيعها للمستهلك بسعر يقارب سعر الجملة، ويتجذّر ذلك بحضور “المؤسسة السورية للتجارة”، بالمواد المقننة والمواد المهمّة الأخرى، شريطة أن تكون أسعارها أقل مما هي عليه الآن، لأن العديد منها حالياً يقارب أسعار التّجار أو يماثلها، وأرى من المفيد حضور مراكز لمستوردي المواد الذين عليهم أن يعرضوا بضاعتهم للمستهلك بسعر يقارب سعر بيعها لتّجار الجملة، وحضور مماثل لتجار الجملة، وبيع بضاعتهم بسعر يقارب بيعها لتجار المفرق، وأيضاً ضرورة حضور المؤسسات الإنتاجية الرسمية والخاصة في الأسواق الشعبية، كحضور بعض مصنّعي الألبسة والأحذية والمؤسسة العامة للمداجن بخصوص بيع البيض والفروج.
لكن واقع الحال يظهر بل يؤكد أن محدودية المعطيات ستؤدي للحدّ من كثير من التطلعات، فعدد هذه الأسواق وحجمها الأفقي والعمودي وأماكن وجودها، سيحدّ من قدرتها على استيعاب المعروضات الزراعية والحرفية والصناعية، علماً أنه ليس بمقدور الكثير من المنتجين (زراعيين وصناعيين) الحضور بمنتجاتهم إلى هذه الأسواق، أكان لضيق وقتهم أو لضعف توفر النقل أو لارتفاع تكاليفه، أو لأسباب شخصية، مع الحذر من عزوف بعض المنتجين عن بيع منتجاتهم للمستهلك بسعر بيعهم لها لتّجار الجملة، والإصرار على بيعها في السوق بسعر يقارب سعر تجار المفرق، خاصة وأن بعضهم يمارس ذلك في حقله أو منشأته، ما سيسفر عن حضور مشهود في الأسواق لشريحة من التّجار بشكل معلن أو تحت عنوان منتجين، كما هي حال واقع سوق البسطات المعهود.
من المجمع عليه أن المزيد من تفعيل الأسواق الشعبية حاجة وطن ومواطن، واهتمام السيد الرئيس بها مدعاة للاعتزاز، ما يوجب ضرورة قيام السلطات المعنية باتخاذ جميع الإجراءات الممكنة في سبيل تعزيز هذه التجربة، من خلال افتتاح أكبر عدد ممكن منها، وتحقيق أوسع قاعدة انتشار وأشمل نوعية مواد، بالترافق مع الإشراف الرقابي عليها، رقابة رسمية صارمة متتابعة وعلى عجل، رقابة توجيهية متبوعة برقابة قمعية، مترافقة برقابة شعبية داعمة بلا خجل من التوجيه ولا وجل من الشكوى، رقابة معنية بالسعر والجودة والوفرة، والحدّ من لجوء البعض لتسوق بعض المواد الرخيصة، للمتاجرة بها على الرصيف في مكان آخر أو عرضها ضمن المحلات التجارية.
أما فيما يخصّ المستهلكين، فلن يكون بمقدور شريحة كبيرة منهم الحضور لهذه الأسواق بسبب المسافة بينهم وبينها، أو لأسباب أخرى عديدة، ما يضعف الجدوى الاقتصادية المتحققة لهم منها قياساً بتسوق موادهم بأسعار أعلى من التّجار المجاورين لهم، ما يوجب العمل لتغطية قسم كبير منهم، باعتماد السوق الشعبي الجوال، عبر سيارات تجوب الأحياء والقرى التي لا توجد فيها أسواق شعبية ثابتة، ولتكن السورية للتجارة صاحبة الدور الأساسي في ذلك، لتغطية حاجة جميع المواطنين من المواد المدعومة، ومن المواد الأساسية الأخرى المنخفضة الأسعار، قياساً بأسعار التّجار، بالتوازي مع حضور متنامٍ للجمعيات الفلاحية في الريف، والأهلية في المدن، فيما يخصّ تسويق المنتجات الزراعية والحيوانية من مراكز إنتاجها مباشرة، والحال نفسها بالنسبة لتسويق بعض المنتجات الصناعية الاستهلاكية، وقد ظهر بعض هذا الحضور المفيد إلى حدّ ما خلال الشهرين الماضيين، ومن المقتضى تجذيره وإنجاحه، ومدعاة للسرور أن أغلب المحافظين سارعوا لتأسيس العديد من هذه الأسواق، بدءاً من المدن الرئيسية والإيعاز بالإعداد لاعتمادها في جميع وحدات الإدارة المحلية، والعديد منها باشر عمله برواج كبير.
حبذا ألا يغيب عن البال أن الاستهلاك حاجة المواطن والتسويق وسيلة وصولها له، ولكن الإنتاج هو الأولى، فليكن الهمّ الأساسي والأول لدى السلطات الرسمية والمنظمات والهيئات وعامة الشعب باتجاه المزيد من تفعيل الإنتاج بجميع أنواعه وخاصة الإنتاج الزراعي، الذي يشهد منذ سنوات ضموراً نسبياً في كثير من أنواعه، قياساً بحاجة السوق، بدليل ارتفاع أسعار الكثير من المنتجات عن سعرها المعهود مثال ذلك مادة الثوم ومادة الليمون الحامض، نتيجة توفر فرص عمل مغرية أخرجت عشرات آلاف الفلاحين من حقولهم، ونتيجة ارتفاع أسعار مستلزمات الإنتاج الزراعي من حراثة وسماد وبذور ومكافحة أمراض.
أيضاً، حبذا ألا يغيب عن البال أن الوسيط التجاري سيبقى حاجة قائمة لا يجوز ولا يمكن إلغاؤها – كما يطرح البعض – ولكن الأسواق الشعبية ستخفّف من أرباح هذه الشريحة إلى حدّ كبير، ما سيضعف التهافت باتجاه التجارة، ويؤسس للعودة إلى مواقع الإنتاج في الحقول المهجورة والمشروعات الإنتاجية الصغيرة.
عبد اللطيف عباس شعبان/ عضو جمعية العلوم الاقتصادية السورية