كورونا يثبت تفوق النموذج الصيني
ترجمة وإعداد: علاء العطار
لا شيء يفضح الاختلافات الجهازية أكثر من الجائحة، وهذه الاختلافات مقلقة جداً في نظر الصين والولايات المتحدة اللتين وقعتا في منافسة أيديولوجية حتى قبل تفشي وباء كورونا، ولكن سيظل البلدان بحاجة إلى مراجعة عقديهما الاجتماعيين بعد احتواء الجائحة.
اتخذت الصين والولايات المتحدة تدابير بعيدة المدى لمنع انتقال الفيروس الذي كسر دورة العائدات والإنفاق التي تحافظ على النمو العالمي، ويقدر صندوق النقد الدولي أن الناتج المحلي الإجمالي العالمي سينكمش هذا العام بنسبة 3 بالمئة، بيد أن تدابير الصحة العامة التي اتبعها البلدان، وما يترتب عليها من نتائج، متباينة بشكل كبير، إذ أدى حظر التجول الصارم في الصين إلى انخفاض كبير في الحالات الجديدة، فيما أدت استجابة الولايات المتحدة المتأخرة والمجزأة إلى انتشار العدوى، وتزايد عدد الوفيات.
يعزا هذا الاختلاف في غالب الأحيان إلى الفروقات السياسية، إذ يتيح التخطيط المركزي للصين اتخاذ إجراءات أكثر حزماً، لكن هذا التفسير يغفل تأثير نماذج النمو في الصين والولايات المتحدة في صياغة استجابتيهما، عدا عن ذكر الآثار المالية والاقتصادية، وأدت عقود من السياسات النيوليبرالية في الولايات المتحدة إلى الاعتماد على الاستهلاك الذي تموله الديون، فلم يدخر الأمريكيون سوى القليل واقترضوا كثيراً، وهذا هو حال حكومتهم أيضاً بسبب “الامتياز الباهظ” الذي أتاحته مكانة الدولار الأمريكي كعملة احتياطية عالمية رئيسية، ما أدى إلى تضخم العجز المالي، وعجز الحساب الجاري.
على الرغم من ذلك، ظل التضخم منخفضاً، حتى عندما انتهج بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي سياسات توسعية، ويرجع ذلك غالباً إلى صدمات العرض الإيجابية التي نتجت عن اندماج الصين، وغيرها من الدول النامية في الاقتصاد العالمي، وقد اتخذ بنك الاحتياطي الفيدرالي هذا المسار مجدداً خلال الجائحة، فخفّض أسعار الفائدة، ووسّع ميزانيته العمومية بما يربو على 2.4 تريليون دولار في الأسابيع الفائتة ليحول دون حدوث نقص سيولة عامة.
اكتسب النظام المالي الأمريكي نفوذاً مفرطاً، وزاد انفصاله عن الاقتصاد الحقيقي في الوقت نفسه، إذ تتداول شركات وول ستريت فيما بينها، وزاد اعتماد الشركات على أسواق رأس المال بشكل أكبر من اعتمادها على البنوك.
وبالرغم من التقدم في المدفوعات الالكترونية، تواصل الأُسر والشركات الصغيرة العمل بشكل رئيسي بالأوراق المالية والشيكات وبطاقات الائتمان الأقل كفاءة، وتُسلّم وزارة الخزانة الأمريكية المبالغ التحفيزية في ظل الجائحة عبر إيداعات مباشرة، وشيكات مرسلة بالبريد.
من جانبها استغلت المنصات التكنولوجية نموذج النمو القائم على الديون، ما دفع مستخدميها إلى استهلاك لانهائي- من خلال الإعلانات المستهدفة مثلاً- دون اهتمام كبير بدعم من يحاول توليد دخل عبر الأنترنت، ويجسد “الاقتصاد التشاركي” هذه الديناميكية وحيدة الاتجاه، فأصبحت منصات مثل شركة أُوبر للتكنولوجيا مناسبة للبيع، وتوفر لعامليها الحد الأدنى من التدريب والحماية، في حين يتبع منظّموها مقاربة عدم التدخل.
ولطالما كان واضحاً أن النموذج الأمريكي غير مستدام مالياً وبيئياً واجتماعياً، لكن جائحة كورونا بيّنت أن أية مقاطعة لدورة الدين والاستهلاك تهدد بإحداث انهيار فوري، فبمجرد انقطاع الإيرادات، تقلّص المؤسسات المالية الخاصة الائتمان خوفاً من القروض المتعثرة، في حين ينخفض الاستهلاك، ما يستنزف الإيرادات بشكل أكبر، ولتحاشي هذه الكارثة، على بنك الاحتياطي الفيدرالي ووزارة الخزانة التدخل، وتحويل مخاطر الائتمان إلى ميزانية القطاع العام العامة.
يتجنب النموذج الصيني كثيراً من هذه المخاطر، إذ اعتمدت الصين، بمعزل عن المدخرات المرتفعة، على الصادرات والاستثمار لدعم النمو، عوضاً عن مستويات الاستهلاك المحلي غير المستدامة، كما ربطت منصات التكنولوجيا المبتكرة، خاصة في مجال التكنولوجيا المالية، الاقتصاد التقليدي بنظام بيئي رقمي أوسع يشجع المستخدمين على الاستهلاك والربح، ما عزز بالتالي المرونة الهيكلية والتنظيمية للاقتصاد الصيني.
لا تعد هذه نتائج التخطيط المركزي، بل نتائج التجارب المستمرة على أرض الواقع، والتكيف المستند إلى التغذية الاسترجاعية التصاعدية، وكانت منصات التكنولوجيا هي من طوّرت شبكات شاملة تشجع على الابتكار، وليس المخططون المركزيون، وخلقت أسواقاً جديدة، وولّدت وظائف كثيرة، وتمحور دور المنظّمين حول تسهيل الأمر فحسب.
أبرزت الأزمة الصحية العالمية فوائد هذه المقاربة، إذ تنشئ النظم البيئية التكنولوجية في الصين نماذج أعمال حلقية مستدامة تستند إلى حلقة: “كسب- إنفاق- أجر” التي دمجت دوري الشركة والمستهلك، وهي أوسع من النماذج الغربية التي لاتزال مقسمة حسب اللوائح القطاعية، فخلال فترة الحظر في الصين، أصبحت أسواق من أمثال علي بابا، وبيندودو، وغيرهما، حبل نجاة لكثير من أصحاب الشركات الصغيرة، إذ أبقتهم متصلين بملايين المستهلكين المحليين والدوليين، وكان وجود شركات الخدمات اللوجستية عبر الأنترنت أمراً حيوياً، فقد ضمنت تسليم السلع الأساسية طوال فترة الحظر.
كما طوّرت الصين نظاماً مسطحاً ومتكيفاً يربط 800 مليون هاتف ذكي محلي بطرق مثمرة، وهذا عنصر حاسم في نموذج الادخار الهجين الدائري الأوسع المعتمد على حلقة الادخار- الاستهلاك- الدين- العائدات، وهو أكثر مرونة من النموذج الغربي المتمثّل بالاستهلاك المموّل بالديون، ويعد هذا السبب الرئيسي في عدم مواجهة القطاع المالي الصيني لنقص حاد في السيولة.
وفيما يتطور نموذج التنمية الصيني، قد يصبح نظاماً دائرياً بالكامل يشجع إنشاء رأس مال اقتصادي واجتماعي وطبيعي، بدلاً من استهلاكه ببساطة، لكن نجاحه سيعتمد على تطوير عقد اجتماعي أكثر شمولاً لفترة ما بعد الجائحة، وهي عملية قد تتعطل بسهولة بفعل التنافس الأيديولوجي والجيوسياسي القاسي مع الولايات المتحدة.
على الولايات المتحدة تحديث عقدها الاجتماعي، خاصة من خلال تعزيز المرونة والشمول، وسيكون تحقيق التوازن الصحيح بين الشركات الكبيرة والصغيرة، وبين خصوصية الفرد والبيانات الكبيرة، بين الكفاءة قصيرة الأجل وإدارة المخاطر، على المدى الطويل هي المفتاح.
وفي سبيل ذلك، على الولايات المتحدة التخلي عن غطرستها السياسية لتفسح مجالاً لتبادلات عقلانية وشاملة، ولكن بالنظر إلى استجابة الولايات المتحدة لجائحة كوفيد 19، نجد أن الأمر غير مضمون.