روسيا تحقق حلمها في البحر الأبيض المتوسط
علي اليوسف
تتقدم موسكو بخطوات ثابتة لتثبيت وجودها على سواحل المتوسط في تحول استراتيجي مهم كانت ترنو إليه منذ قرون. ومن المهم منذ البداية التأكيد على أن قرار روسيا بالتدخل العسكري المباشر في الدفاع عن الدولة الوطنية السورية والمحافظة على وحدة وسيادة البلاد لم يكن طمعاً في خيرات سورية وثرواتها الطبيعية، فهي اتخذت قرار التدخل انطلاقاً من هدفين استراتيجيين هما:
أولاً: التصدي لسياسة القطب الواحد الذي تمارسه الولايات المتحدة، والتي أدت إلى نشر الفوضى والقتل والدمار في أنحاء العالم كله، إلى جانب تجاهلها لنصوص القانون الدولي، التي تمنع أي دولة في العالم من التدخل في شؤون الدول الأخرى إلا إذا طلبت منها الدولة المعنية ذلك التدخل، وهو ما حصل بين الدولة الوطنية السورية وكل من روسيا وإيران.
ثانياً :الدفاع عن أسوار موسكو والأمن القومي الروسي انطلاقاً من حماية المصالح الاستراتيجية للاتحاد الروسي على صعيد العالم كله، وذلك من خلال تعزيز التواجد العسكري، وبالتالي الدبلوماسي. وفي الحالة السورية كان الهدف من تعزيز تواجدها العسكري هو خلق قاعدة ارتكاز استراتيجية من أهم أهدافها وضع الأسطول الروسي في الخاصرة الجنوبية لحلف شمال الأطلسي، أي في البحر المتوسط، والذي يشكل مسرح عمليات للسفن الحربية التابعة لدول حلف الأطلسي، ومن بينها سفن الأسطول السادس الأميركي إلى جانب الوحدات البحرية لدول الحلف الأخرى المتمركزة في القاعدة البحرية الأمريكية في مدينة نابولي الإيطالية.
لكن في المقابل، وبالنظر إلى السياسات العدائية للولايات المتحدة الأمريكية تجاه روسيا وحلفائها في الصين وإيران بشكل خاص، إضافة إلى سورية طبعاً، فإن واشنطن تواصل العمل على ما يلي:
أولاً: استكمال الحشد العسكري ذي الطبيعة العدائية على حدود الصين الغربية وفي بحار الصين والمحيط الهادئ، إلى جانب مواصلة واشنطن حشد العديد والعتاد على حدود روسيا الغربية، بهدف تطويقها وتهديدها، علماً أن هذه الحدود الغربية لروسيا تمتد من استونيا، شمال شرق بحر البلطيق وبالقرب من مدينة لينينغراد الروسية، عبر دول لاتفيا ولتوانيا وبولندا وسلوفاكيا ورومانيا وبلغاريا، وجميعها أعضاء في حلف شمال الأطلسي، إلى تركيا التي تشارك بلغاريا ورومانيا وأوكرانيا وجورجيا في شواطئ البحر الأسود، وهي دول معادية لروسيا.
ثانياً: تنفيذ مشاريع سكك حديدية، تمتد من حيفا في فلسطين المحتلة وحتى عُمان، وذلك في إطار الاستعدادات الأمريكية لاحتمال قيام إيران بإغلاق مضيق هرمز وقيام الجيش اليمني واللجان الشعبية بإغلاق مضيق باب المندب، ما يعني وقف الملاحة عبر قناة السويس، الأمر الذي يجعل البحث عن بديل لهذه الممرات البحرية أمراً ذا أهمية عالية، وهو ما دفع الولايات المتحدة للتفكير بمشروع السكك الحديدية، وطرحه للتداول عبر الكيان الإسرائيلي.
وفي ضوء كل هذه التطورات على الصعيدين الإقليمي والدولي، وعلى الرغم من تحسن العلاقات الروسية التركية، إلا أن تركيا تبقى هي الدولة ذات السيادة على مضائق البوسفور والدردنيل التي تربط البحر الأسود بالبحر الأبيض المتوسط، وذلك بموجب اتفاقية (مونتريه في سويسرا) الموقعة بتاريخ ٢٠/٧/١٩٣٦ بين الدول المعنية، وهي تركيا واليونان ويوغوسلافيا والاتحاد السوفييتي ورومانيا وبلغاريا وإيطاليا وفرنسا وبريطانيا واليابان.
لذلك فإن سيادة تركيا الكاملة على هذه المضائق رغم وجود نظام محدد يحكم حركة الملاحة بما فيها السفن العسكرية، يدفع روسيا بشكل جاد بأن تفكر دائماً في بديل لإمداد أسطولها العامل في البحر المتوسط والذي يتم حالياً من قواعدها في البحر الأسود عبر المضائق المشار إليها، كما أن عليها أن تتخذ الإجراءات اللازمة لضمان تدفق الإمدادات لقواتها الجوفضائية العاملة في سورية أيضاً.
صحيح أن تركيا تتمتع بهامش كبير جداً في التحكم بحركة وحرية العبور في فترات الحرب، إلا أن هذه الحرب بين تركيا وروسيا مستبعدة في المدى المنظور، لكن ذلك لا يمنع روسيا من تأمين طريق إمداد بديل لقواتها في المتوسط وسورية، خاصة في ضوء التحركات العسكرية الأمريكية المريبة في العراق بشكل عام وفي محافظة الأنبار بشكل خاص، ومواصلة البنتاغون محاولات إقامة قواعد ونقاط قيادة وسيطرة أمريكية في المنطقة الممتدة من التنف السورية وحتى مدينة القائم العراقية بهدف قطع التواصل الجغرافي البري بين موسكو ودمشق، أي قطع طريق الإمداد الروسي البديل، وبالتالي فإن روسيا ومعها إيران وسورية وقوى المقاومة في العراق ولبنان لا يمكن لها أن تتخلى عن هذا التواصل البري وجاهزيتها وأن تمنع الجيش الأمريكي من السيطرة على تلك المناطق حتى لو بالقوة العسكرية، وإجباره على الانسحاب منها أي من شرق سورية وغرب العراق، وذلك لإفشال مخططات ربط إقليم شمال العراق مع الكيان الإسرائيلي عبر الأردن الذي يعج بالقواعد العسكرية الأمريكية.
وفي هذا المقام، من الضروري التذكير بما قامت به دول الحلفاء عندما احتلت إيران خلال الحرب العالمية الثانية لتأمين الإمدادات الحيوية لجيوش الاتحاد السوفييتي عبر بحر قزوين ونهر الفولجا الروسي، وهو بالتالي ما يعكس الأهمية الاستراتيجية للتواصل البري بين موسكو ودمشق. وعلى أهمية هذا التواصل البري من الناحية الاستراتيجية عسكرياً، إلا أن أهميته الاقتصادية والسياسية لا تقل في حجمها عن تلك العسكرية.
لذلك فإن هذا التواصل، وبالنظر إلى تحسن العلاقات الاقتصادية التركية الروسية، ونظراً إلى الإمكانيات الهائلة من موارد طبيعيه وثروة مالية وتكنولوجيا متقدمة وعدد سكان كبير يصل إلى حوالي ٤٠٠ مليون مواطن لكل من روسيا وتركيا وإيران إلى جانب إمكانيات العراق الكبيرة والسوق السوري الواعد والذي سيسجل أعلى نسبة نمو بعد انتهاء الحرب، حسب تقديرات الجهات الدولية المختصة، فإن توجهات روسيا وقوى حلف المقاومة، مضافاً إليها الصين ومشروعها “الحزام والطريق”، ستشكل منعطفاً استراتيجياً غاية في الأهمية لتعزيز الثقل الاقتصادي وبالتالي السياسي لهذه المجموعة في العالم، ما سيؤدي إلى تغير جذري في موازين القوى الدولية وفي تراجع دور سياسة الهيمنة الأمريكية والسيطرة الأحادية الجانب، المستندة إلى قانون الغاب وليس إلى القانون الدولي.