تحليل وتركيب
د. نضال الصالح
ربّما ما سيأتي من القول لن يروق لغير قليل، وربّما معظم مَن يصف نفسه، أو يصفه سواه، بأنّه محلل سياسي. ولكن ما ليس ربّما، بل هو مؤكّد أنّ التحليل السياسي ليس حقلاً معرفياً مباحاً لمن يشاء، بل لمَن أوتي من العلم – أجل العلم! – في هذا الحقل، ما يجعله جديراً بهذه الصفة، وسوى ذلك سيكون محض زعم، أو تخريف، أو هذيان.
التحليل، أيّاً كان الحقل المعرفيّ الذي يتحرّك في مجاله، علمٌ، وأيّ عِلم لا يمكن أن يمنح نفسه لغير العلماء، وهؤلاء، العلماء، لا يمكن أن يكونوا كذلك إلا إذا استجمعوا لأنفسهم مجمل المعارف التي تعني هذا العلم. وهو علم لأنه في النهاية تركيب، ولأنّ هذا الأخير، أي التركيب، فعالية علمية بامتياز، كما التحليل نفسه فعالية علمية بامتياز.
التحليل والتركيب دالّ ومدلول بالمعنى الدقيق لعلم اللسانيات، وهما وجهان لشيء واحد اصطلح هذا العلم عليه بالعلامة التي لا يمكن أن تكون كذلك إلا بوجود وجهيها معاً، بمعنى أنّه ما مِن قيمة لتحليل لا ينتهي بتركيب، وما مَن قيمة لتركيب إنْ لم يكن مسبوقاً بتحليل، تحليل علميّ، وبمعنى أنّ التركيب يكون ذا قيمة إذا كان التحليل السابق عليه ذا قيمة.
غير أنّ ما يحدث في الأغلب الأعمّ من الواقع، ممّا يوصف بالتحليل السياسي، ليس كذلك، بل بما كان القدماء اصطلحوا عليه بلفظ الكنّاشة التي تعني مجموعة من الأوراق تُقيّدُ فيها الشوارد والفوائد، والتي لا رابط فيما بينها سوى إحالتها على موضوع واحد. وغير خافٍ ما يتضمنه لفظ الشوارد من علاقة نسب واضحة بحال نفسية تُسمى التداعيات التي تعني، مما تعنيه ولا سيما في علم النفس، مجموعة الأفكار والصور التي تتتابع من دون أن يكون ثمة ترابط منطقي أو سببي بينها. ومن أسباب ذلك أنّ كثرة من المحللين تكتفي بما تقوله سطوح الظاهرة، موضوع التحليل، من جهة، وبما ينجزه الآخرون في مجالها أكثر مما يقوم المحلل نفسه بإنجازه من جهة ثانية، وبما يبدو لصيقاً بحدود السعة المعرفية الخاصة به من جهة ثالثة.
إنّ التحليل السياسي يتطلب كفاءة معرفية عالية بموضوع التحليل، وأول مستلزمات هذه الكفاءة معرفة ما لا يعرفه الآخرون، والبحث الدائم عما يختفي تحت القشرة الخارجية ممّا تصدره وسائل الإعلام عن هذا الموضوع، ومما يصدر من السياسيين أنفسهم من التصريحات التي ربّما لا تعني ما تعنيه في الظاهر، وممّا يتجلّى بوصفه كشفاً واكتشافاً لا بوصفه تأليفاً بين معلومات. أما ثانيها، فهو احترام المحلل عقل المتلقي ووعيه، وتقديره الدائم أنّ هذا المتلقي أذكى ممّا يتصوره المحلل. ومن تلك المستلزمات، ومما ليس من ثالثها فحسب، بل ممّا يُعد سابقاً على سابقيْها، ومقدّمة لهما، هو التخصص في مجال بعينه من مجالات التحليل لأنّ الإحاطة بمجمل ما يحدث في كوكب الأرض من أحداث في حقل السياسة يتطلّب جهود مؤسسات ومراكز أبحاث ودراسات.
وبعدُ، وقبلُ، فلله درُّ العربية التي يختزل حرفا زيادة في أفعالها ما يغني عن عبارة، فيُقال: تعالمَ، تفاصحَ، تشاعرَ…!