مطر يسكب العطر
سلوى عباس
كتب لها: هاأنذا أنبعث من شغاف عينيك، تساءلتُ: لماذا أحبك؟ كنت أعد قهوة الصباح وتغمرني البرودة، ويقلقني أني سألتقي عينيك في منتصف المسافة، ماذا سأحمل لك..؟ وبماذا أبدأ الكلام؟ لا أدري ما الذي جعلني أبدو كطفل أمامك، فعيناك المتيقظتين استطاعتا أن تجرداني من كل أسلحتي، وأن تبعثرا كما حبات الرمل دفاعاتي الراسخات.
قلت لي: بعض الناس يصل متأخراً! فأقنط بعض الوقت، وأعرف أنك لا تزالين بعيدة، يفصلك عن دمي زمن له ملمس أوجاعي.. ألملم روحي ثانية، ثم أقذفها لهيباً من الأسئلة، فقد كنت أريدك أن تشتعلي لتضيئي حيرتي، أن تبددي انكساري قبل أن تلمسه أهدابك، ولكن!! نظرت في ساعتي، كان عقرباها يعلكان الدقائق ويمضغان فرح قلبي النابت تواً، بينما امتدت أصابع لا مرئية تزيح محياك عن أفق عينيّ، ثم تدفعني بقوة إلى هوة لا أزال أغرق في رمالها.
****
اضطرته ظروف العمل للسفر لأيام قليلة إلى مدينة مجاورة، وهناك وجد نفسه وحيداً يرهقه الحنين فكتب لها يصف لها حاله ورغبته بأن تكون معه فقال: مرة أخرى أجدني بعيداً عنك.. بيننا جبال وغيوم وثلوج ووديان من برد وأشجار صنوبر يلفها الضباب فتضيع في السديم وتزيد إيغالاً في البعد.. مرة أخرى أشتاقك هنا على ضفاف بيروت التي يغمرها المطر والبحر، تلتمع بيوتها في انبثاقات الشمس بين حين وآخر، ويهطل فيها وجهك المشتهى على زجاج النافذة فيغتسل القلب.. تبقى عليه قطرات من سحابك اللذيذ.. أرقب تعرج انزلاقها على بللور الروح.
يراودني الحلم القديم فأحس للحظة أنك معي هنا.. أراك أنىّ التفت، وألمسك كيفما تحركت.. أتخيل أننا في طريق يسكب المطر عطره علينا معاً.. نتراكض بين رصيف وآخر، نتقافز هاربين من قطرات تلاحق عدونا، وشعرك المسدول ندياً يقطر حلوه على كتفيك وبعض من نجوم مائية ترصع وجنتيك، ونقطة تكاد أن تهمي من أرنبة أنفك.. نلتجئ إلى بوابة أو مظلة أو دكان، ثم أمسك بيدك لنعدو من جديد في طرقات تكاد تخلو إلا من وقع خطانا على الماء، وموسيقا انهمارات المطر الدافئ على الإسفلت وأسقف السيارات المتلامعة.. أتخيل أيضاً بأننا نقف على شرفة نرقب اغتسال المدينة وجلاء بهائها حال تنشق الغيوم عن بريق شمس هادئة.. أضم كتفيك إلى ضلوعي ونرفع فنجاني قهوتنا قبل أن تبرد.. لكني دائماً كنت أضم طيفك في يدي، وحين أفردها عن سراب أفيق على أشجار صنوبر يلفها الضباب.. ووديان بعيدة من برد.
****
حبيبها الذي في قلبها وردة تمتدّ في أفق الروح، ساحة لانقشاع الشمس، وملعب لانبثاق الأقحوان، ساقية من ماء النور والغبطة، يدفع بألق لآلئه في روحها، فتعود عن يباسها، ويمسح عن قلبها الرماد، يداعب طيفه عينيها، فتغفو عليه بجفنيها كي لا يغادرها، وتمسك عنه بوحها في لياليها كي لا يستفيق الناس على صبح في غير موعده، هو من يمسك الشمس عن الاحتراق، وهو من يداري الهواء عن الذبول، هو من أينع فيها حروفها الوردية، وأعاد إليها معرفة الكتابة.
كانت تظن فيما مضى أن لا شيء يوقظ فيها قصائدها، لا أحد يعيد لها سهد الليالي الشهي، وأن لذاك الشرود اللذيذ وقتاً قد مضى.. ها قد كَبُرت على الاشتياق، وفقدت متعة الانتظار، وحرائقه القدسية. كانت تظن فعلاً أنها غادرت بعضاً من أجزائها، وأن لتلك الأحاسيس الدافئة لديها عمر قد انتهى، وأصاب الجفاف روحها في جذورها، ولا غيمة ستأتي ولو متأخرة لتدقّ أجراسها الاحتفالية في مسامها، وترشّ غيثها على جسدها ألواناً وأزاهير. كانت تظنه القوس الأخير، غادر قبّته البهية، ثم انطوى إلى الأرض مبعثراً كما روح من زجاج فقدت قدرتها على التحليق.. لا أحد يدق باب القلب، لا أحد يضيء حجراته الباردة، لا ليل يأتي ولا نهار.. كل شيء من الرمادي يبدأ، ثم لا ينتهي إلا به.. ما من زرقة ستأتي، ولا اخضرار.