نهج المقاومة الطريق الوحيد لتحرير الأوطان.. انتصار أيار نموذجاً
د.معن منيف سليمان
جاء عرس التحرير الذي تمثل باندحار الاحتلال الصهيوني عن الجنوب اللبناني ثمرة ونتاج لصمود شعبنا العربي في لبنان ومواجهته البطولية منذ الاجتياح الأول عام 1978م، وللمقاومة الوطنية التي انطلقت إثر الاجتياح الثاني عام 1982م، بعملية قصف مستعمرة كريات شمونة بالصواريخ التي شكّلت الرّد الذي حمل بعداً قتالياً لم يكن العدو يتوقعه، وأكدت على أهمية نهج وخيار المقاومة في سبيل تحرير الأرض والإنسان.
ففي عام 1978م، اجتاح الجيش الصهيوني جنوبي لبنان، ثم غزا بيروت عام 1982م، وتكررت أعماله العدوانية، ما استدعى رد فعل شعبياً طبيعياً، تجسد في نشوء مقاومة وطنية تنتسب إلى الوطن ومن بين أبنائه الشرفاء، بغض النظر عن الانتماءات الضيقة وألوان الرايات والتسميات، هذه المقاومة حافظت على بقائها واستمراريتها حتى اشتد عودها في ظل ظروف إقليمية ودولية متغيرة، ففي بادئ الأمر اتخذت من العمليات الاستشهادية وسيلة لتوجيه ضربات موجعة للعدو الصهيوني، وبرزت هناك أسماء لاستشهاديين أبطال نذكر منهم الشهيدة سناء محيدلي، ثم انتقلت المقاومة إلى موقع متقدّم في مجابهة العدو، بسبب طبيعة التركيبة السكانية في المناطق المجاورة للشريط الحدودي، وتوفر الدعم الإقليمي والحاضن الشعبي الذي تجاوز التقسيمات الطائفية والمذهبية والسياسية، فكان ذلك رصيداً ومعيناً في نجاح المقاومة في تحقيق انتصار مؤزّر على الجيش الصهيوني المحتل وعملائه، تمثل بتحرير الجنوب اللبناني، حيث قدمت المقاومة نموذجاً عملياً ومثالاً يحتذى به على نجاح خيار المقاومة من أجل تحرير الأراضي المغتصبة.
والمقاومة الوطنية في لبنان التي هزمت المحتل، لم تكن خياراً وحسب، بل كانت قدراً آمن به المقاومون، فقدموا في سبيله التضحيات الجسام، حيث ارتقى العديد من الشهداء والاستشهاديين على مذبح الوطن، مسقطين بذلك أسطورة الجيش الذي لا يقهر، ومقولة حماية أمن المستوطنات.
استطاعت المقاومة الوطنية اللبنانية من خلال استبسال مقاتليها وارتفاع وتيرة العمليات النوعية الجريئة ضد الاحتلال الصهيوني والميليشيات العميلة التابعة له، أن تحقق انتصارات نوعية أربكت المحتلين الصهاينة، ولعل أهم ما نجم عن هذه العمليات النوعية للمقاومة أنها أجبرت العدو الصهيوني على اتخاذ قرار يتضمن تخفيض عدد الضباط والجنود العاملين في الشريط المحتل إلى سبعمئة عنصر لضمان تخفيف نسبة الخسائر البشرية في صفوف جيش الاحتلال، وهذا القرار العسكري أملته آنذاك ضغوط سياسية ناجمة أساساً عن الردود السلبية التي عمّت الرأي العام الصهيوني جرّاء توالي وصول توابيت الجنود الصهاينة، وفي هذا الصدد قال “ناحوم برنياع” وهو محلل سياسي معروف في صحيفة “يديعوت أحرونوت”:” لقد طرأ التغيير الأساس في الجانب الإسرائيلي، حيث لم يعد الإسرائيليون يوافقون على مواصلة دفع الضريبة السنوية، وصرخ الجميع: يجب الانسحاب. يجدر بنا ألا نوهم أنفسنا، ليس الالتزام الذي قطعه باراك على نفسه في الانتخابات هو الذي أخرجنا من لبنان، بل إراقة الدماء، لقد ألحقت عدة مئات من مقاتلي حزب الله الهزيمة بالجيش الإسرائيلي الكبير والقوي، لقد هزموه في المعركة الأهم من كل المعارك”. كل هذه العوامل المجتمعة زلزلت أرض الجنوب تحت أقدام الغزاة والعملاء على حدّ سواء، ولم يكن أمام قيادة الاحتلال مناص من الاعتراف بالخسارة وإجبارها على اتخاذ قرار مؤلم وتحديد الأول من حزيران عام 2000م، موعداً لبدء الانسحاب من جنوبي لبنان في حين كانت المعلومات تؤكد وقتها أن جيش الاحتلال كان منهمكاً في تسليم أسلحته ومواقعه الحصينة لميليشيات العميل “أنطوان لحد”، ولكن المقاومة نجحت في رسم “سيناريو” الانسحاب المهين للصهاينة، واضطرت قوات العدو في النهاية على الانسحاب من جنوبي لبنان مهرولة وقبل الموعد المحدد للانسحاب فنجم عن هذا الانسحاب القسري السريع تحطم المنطقة الأمنية وما يسمى بجيش لبنان الجنوبي، وتبخر خطة الانسحاب الصهيونية “الأحادي الجانب” ولذلك كسبت المقاومة كل الأوراق.
لقد تركوا كل شيء وهربوا، تاركين حلفاءهم “اللحديين” دون سند أو معين وهذا يدل على أن الذين ارتضوا، أو تسابقوا على الخيار الصهيوني اعتمدوا على رؤية مشوهة للتاريخ والجغرافية والسياسة، فاستفاقوا على وقع كابوس، لقد ذهبوا إلى حضن الصهاينة بقناعة أنهم يملكون الجيش الأقوى في المنطقة معتقدين إنهم يستندون إلى جدار أمني صلب، ويمكن أن ينتقل من مكان إلى آخر وهو يقضم الأرض تلو الأخرى، ولذلك أداروا ظهورهم إلى الصهاينة وبنادقهم صوب شعبهم، وعندما انهار الجدار وأزاحته “إسرائيل” انهار العملاء بهذا الشكل المذل والمهين.
وهكذا نسفت المقاومة بقوتها وصمودها كل خطط الصهاينة وأحرجت جميع ترتيباتها لما بعد الانسحاب وقطعت الطريق على جميع المناورات السياسية الداخلية والخارجية، والأهم من ذلك كله أنها حسمت جميع التكهنات التي راهنت على فتنة تنطلق من الجنوب لتمتد إلى سائر مناطق لبنان حيث ظن الصهاينة أنهم قادرون على اغتيال انتصار المقاومة اللبنانية من مدخل الطائفية.
ومن الطبيعي أن يستخلص العرب من هذا الانتصار الدرس الرئيس الذي كادوا ينسونه، وهو الذي يؤكد على أهمية خيار المقاومة من أجل تحرير الأرض، فما حدث في جنوبي لبنان ليس إلا نموذجاً حياً لنمط من المقاومة خبرته من قبل المجتمعات العربية وغير العربية معاً. ولعل أهم درس يمكن استخلاصه من ملحمة التحرير هو إمكانية هزيمة الاحتلال في نهاية الأمر، وأن أي شعب له الحق المشروع في مقاومة المحتل، وسيكون النصر حليفه مهما بلغت قوة وجبروت هذا المحتل. فقد أثبتت المقاومة أنها قادرة على الانتصار في ظل الخلل الكبير في موازين القوى بينها وبين أعدائها، فأصبحت بندقية المقاومة قادرة أن تعكس مجرى التاريخ وأصبح العدو هو الذي يتراجع ويتخبط حتى داخل مجتمعه.
لقد أظهرت المقاومة الوطنية اللبنانية عظمة الإمكانيات النضالية التي يختزنها الشعب العربي، وقدراته الهائلة على العطاء والصمود، فعلى الرغم من أرتال الشهداء الأبرياء من الأطفال والنساء والشيوخ العزل، وضخامة موجات التدمير الوحشي للمنازل والجسور والطرقات والمصانع صمدت المقاومة وتجمعت إرادة الشعب على مواجهة العدوان وتحقيق الانتصار، وقد كان له ما أراد.
وشكّل انتصار المقاومة والتحرير تقويضاً نسبياً لقدرة الردع الإسرائيلية، التي تعد أحد الركائز الأساسية لما يسمى “الأمن القومي الإسرائيلي”، حيث نجحت المقاومة في تغيير قواعد اللعبة الجديدة فسنّت قانون السن بالسن والعين بالعين، وأصبح الصاروخ العربي بخلفية حامليه ومطلقيه الإيمانية يواجه كل مخزون السلاح الصهيوني بعد هزيمة عام 2000م، وما عدوان تموز عام 2006م، إلا محاولة فاشلة لإعادة البريق لقوة الجيش الصهيوني الذي كانوا قد روجوا له بأنه الجيش الذي لا يقهر، حيث شنّت “إسرائيل” حربها على المقاومة في صيف عام 2006م، واستخدمت فيها كل ما تملك من قوة، ولكنها لم تحقق أياً من أهدافها. فالجيش الذي لا يقهر لم يستطع أن يحتل قرية لبنانية واحدة على الرغم من كل الجهود والعمليات العسكرية المكثفة في الجو والبر والبحر على مدى ثلاثة وثلاثين يوماً لم يسلم خلالها الداخل الإسرائيلي من قصف المقاومة الصاروخي الذي لم يتوقف على الرغم من جميع المحاولات الإسرائيلية لإيقافه.
وكانت سورية من أشد المؤمنين بدور المقاومة وقدرتها على صنع المعجزات، حتى أن تاريخ سورية خلال العصر الحديث هو مقاومة مستمرة، فقد قاومت فيه الاحتلال العثماني، وقاومت العدوان الفرنسي، ثم قاومت الأحلاف الاستعمارية، وكانت المبادرة بحرب تشرين التحريرية عام 1973م، التي قادها القائد الخالد حافظ الأسد، وكذلك الدعم السياسي والمعنوي المتواصل للمقاومة اللبنانية من قبل السيد الرئيس بشار الأسد وحماية الخيار المقاوم لدى الشعب الفلسطيني، وما الأحداث التي تشهدها سورية في هذه الأيام العصيبة وما تتعرض له من مؤامرة دولية وإقليمية وعربية دنيئة إلا ثمن لهذا الموقف المقاوم. وستبقى سورية مناصرة لخيار المقاومة من أجل التحرير في لبنان وفلسطين والعراق وجميع الأراضي العربية المحتلة مهما اشتدت شراسة الضغوط الأمريكية ومهما هددت نظامها الوطني المقاوم، فإن ذلك سيعزز الموقف السوري ويزيده مناعة وقدرة على الصمود.
وسيبقى الأمل معقوداً على خيار المقاومة من أجل استكمال التحرير في لبنان وفلسطين والجولان وسائر الأراضي المحتلة طالما أن الشعب العربي بقي محتفظاً بإرادته ومحافظاً على كرامته وثابتاً على مواقفه المبدئية بما فيها موقفه الداعم لخيار المقاومة بلا تحفظ ورافضاً لسياسة الاستسلام للمشروع الصهيوني. فأمتنا العربية بحاجة اليوم إلى رجال وطنيين من أبنائها يستنهضون الأحاسيس الوطنية والقومية والدينية مجتمعة أو منفردة، ويوفرون الزاد الكافي من الوعي والإدراك والقدرة على استنباط وسائل المواجهة للتخلص من وطأة التبعية والاستعباد والفرقة والاستكانة والاستسلام، واستعادة حقوق الأمة الضائعة وأمجادها الغابرة، وهو ما لا يتحقق إلا عن طريق الممانعة والمقاومة. فقد أثبتت التجربة اللبنانية في تحرير الجنوب اللبناني أن نهج الممانعة والمقاومة هو الطريق الوحيد لتحرير الأوطان من مغتصبيها، فليس من المبالغة القول: إن مستقبل المقاومة هو الذي سيحدد مستقبل المنطقة العربية.