واشنطن تستخدم اليورانيوم المنضب في سورية
مازن المغربي
اشتعلت النار في حقول القمح، تم حرق جهود ملايين الفلاحين، مئات ملايين ساعات العمل تم نهبها، وكل هذا بتوجيه مباشر من واشنطن صاحبة السجل الإجرامي بحق البيئة وشعوب العالم. بلاد قامت على فكرة القضاء على شعوب متناغمة مع الطبيعة وبناء مدنية قائمة على مبدأ النهب والقتل والدمار. منذ سنوات طويلة تخوض الولايات المتحدة حروباً في جميع أرجاء العالم.. لا يهمها تحقيق انتصار حاسم لأن الحرب ضرورية للحفاظ على دوران عجلة الاقتصاد.
لكن يبدو أن القائمين على الأمور في واشنطن مصممون على معاقبة الشعب السوري بسبب تمسكه بسيادة بلاده. لا يمكن تحديد تاريخ تدخلات الولايات المتحدة في الشأن السوري، لكن يمكن أن نعد مؤامرة هوارد ستون، في آب 1957، أول محطة بارزة في محاولات زعزعة الأوضاع في سورية، حيث قام عميل وكالة الاستخبارات المركزية، ستون، بالإشراف على الإعداد لانقلاب عسكري بدمشق، ورصدت الوكالة مبلغ ثلاثة ملايين دولار لتنفيذ الخطة. وعلى مدى السنوات التالية، واظبت واشنطن على ممارسة مختلف أنواع الضغوط ضد سورية، وتبنت سياسة الدعم المطلق للحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، وتوجت ذلك بالدور الحاسم الذي لعبته في الإعداد لعدوان حزيران 1967. كما واظبت واشنطن على استعمال حق النقض في مجلس الأمن ضد أي قرار يمكن أن يكون في مصلحة سورية، وتكرر الأمر خلال حرب تشرين، حين أسهم الجسر الجوي الأمريكي بتعديل ميزان القوى لصالح العدو، ناهيك عن مشاركة طيران الولايات المتحدة في المعارك. كما دعمت واشنطن الحرب العدوانية التي استهدفت القوات السورية المرابطة في لبنان عام 1982. صحيح أن العلاقات بين البلدين شهدت انفراجاً نسبياً ظل إدارتي الرئيسين جيمي كارتر وبيل كلينتون لكن المسار العام لم يتغير. ومع اندلاع الأزمة السورية وقفت واشنطن في صف العصابات المسلحة التكفيرية، ومارست ضغوطاً هائلة على حلفائها لقطع العلاقات مع دولة شاركت في تأسيس الأمم المتحدة. كما شاركت قوات الولايات المتحدة في الحرب العدوانية السافرة ضد الشعب السوري، واستولت على حقول للنفط والغاز في منطقة شرقي الفرات – وهو أمر أقر به الرئيس دونالد ترامب في خطاب له، في شهر تشرين الأول من العام الماض – وأقامت قواعد على أراض سورية، وقامت قوات الولايات المتحدة بعمليات تنقيب معتمدة على معلومات وفرتها الأقمار الصناعية، كانت نتيجتها سرقة عشرات الأطنان من العملات والتحف الذهبية الأثرية. وفرضت واشنطن عقوبات اقتصادية ظالمة على البلاد، وطبقت مع الاتحاد الأوروبي حصاراً اقتصاديا خانقاً أدى إلى تراجع قدرات الاقتصاد السوري حيال تلبية الاحتياجات الأساسية لمواطنين. كما كان للولايات المتحدة وأتباعها من المضاربين دور أساسي في تراجع قيمة العملة الوطنية، الأمر الذي انعكس سلباً على حياة الأغلبية الساحقة من أبناء الشعب.
تلك قائمة موجزة لجرائم تخالف كل القوانين الدولية، ولكنها تظل ضئيلة الأهمية حين مقارنتها بالجريمة الأفظع التي تمثلت في استخدام ذخائر اليورانيوم المنضب ضد أهداف مدنية سورية. ففي هذا المجال، يبدو أننا أمام كارثة حقيقية! اليورانيوم المنضب هو نفايات ذرية مشعة يتوفر منه أكثر من مليون و300 ألف طن في العالم. وكانت فرحة المراكز الذرية لا توصف حين قرر قادة الجيش استخدام هذه المادة في تصنيع الذخائر، حيث يصل نصف عمر هذا العنصر إلى أكثر من أربع مليارات سنة! وحين تضرب قذيفة برأس من اليورانيوم المنضب دبابة سرعان ما تخترق التصفيح كما تخترق السكين الزبدة، وترتفع درجة الحرارة داخل الدبابة إلى أكثر من 5 آلاف درجة، ويتحول من بداخلها إلى رغوة، ثم تنفجر الدبابة، ويتطاير الغبار الذري.. ملايين الجزيئات المشعة تنتشر في الهواء وتدخل إلى الجسم عبر الأنف، وهذا يشمل الإنسان والحيوانات، ثم تتكفل الرياح والعواصف بنشر هذه الكارثة في كل مكان، ملوثة المياه الجوفية وكل ما تلامسه. هذا هو موضوع كتاب لمؤلف ومعد أفلام ألماني، اسمه فريدر فاغنر، حمل عنوان (الغبار القاتل المصنوع في الولايات المتحدة)، بعنوان فرعي (اليورانيوم المنضب يلوث العالم)، ومرفق به قرص مدمج يحتوي على فيلم سينمائي وثائقي. والكاتب من مواليد عام 1942، وينشط في عالم الصحافة وإعداد أفلام وثائقية، وقد حصلت أفلامه على جوائز دولية، كما حصل فيلمه (الطبيب والأطفال الذين تعرضوا للإشعاعات في البصرة) على جائزة التلفزيون الأوروبي عام 2004.
صدر الكتاب العام الماضي ويغطي 230 صفحة موزعة على عدة فصول تتضمن نتائج تحريات الكاتب في ما يتعلق بالتداعيات الصحية والبيئية الناتجة.
وجاء في المقدمة اقتباس عن باحث من الولايات المتحدة الأمريكية، هو دوغ وسترمان، مفاده أن استخدام اليورانيوم المنضب جريمة بحق الرب والإنسانية. فمنذ حرب الخليج الأولى، واظبت الولايات المتحدة على استخدام اليورانيوم المنضب، ويتم هذا بتواطؤ إجرامي من أعضاء حلف الناتو ومن وسائل الإعلام الكبرى على الرغم من وجود العديد من الدراسات الموثوقة حول التداعيات الكارثية لهذا السلوك العدواني غير المبرر، حيث أشارت دراسة لهيئة الطاقة الذرية البريطانية، عام 1992، إلى أن استخدام 40 طن من هذه الذخائر في مناطق سكنية يتسبب في موت ما يقارب خمسمئة ألف إنسان. لكن هذا لم يردع الولايات المتحدة وحلفاءها عن قصف العراق بثلاثمئة وعشرين طن من هذه الذخائر في حرب 1991. وتكرر استخدام هذه الذخائر في البوسنة عام 1995، وفي يوغوسلافيا عام 1999، وفي أفغانستان عام 2001، وفي حرب العراق الثانية عام 2003.
الكل مدرك عدم اكتراث قادة البلدان الغربية بمصير شعوب العالم، إنما لا يمكن للمرء إلا أن يصاب بالذهول لسكوت حكومات تلك البلدان ووسائل الإعلام الحر المزعوم عما حل ببعض أفراد قوات التحالف الدولي ممن تعرضوا إلى إشعاعات تلك الذخائر.
وتتساءل جيني مور، المقاتلة البريطانية التي شاركت في حرب الخليج، إن كانت حكومة بلادها تظن أن مشكلة تداعيات اليورانيوم المنضب يمكن أن تنتهي بموت الإثنين وخمسين ألف مقاتل ممن تعرضوا للإشعاعات، فهذا يعني خداعاً للنفس، حيث أن الأضرار الجينية تنتقل إلى الأولاد ومعظم أولئك المقاتلين والمقاتلات كوَّن عائلات ويعاني أولادهم من أمراض خطيرة.
وتتضمن الكتاب شهادات لأطباء وعلماء أشارت إلى ارتفاع نسبة المواليد المصابين بتشوهات خلقية، وارتفاع عدد المصابين بسرطانات الدم بشكل ملحوظ في المناطق التي قٌصفت بهذا النوع من الذخائر.
وجاء في الكتاب أن قوات التحالف الدولي استخدمت هذه الذخائر مرتين على الأقل في سورية، حيث قامت طائرات حربية بقصف أرتال لعربات مدرعة تابعة لعصابات “داعش”، وقدر الكاتب أنه تم استخدام ما يقارب الطن ونصف الطن من مختلف أنواع ذخائر اليورانيوم المنضب في سورية، وهذا يعني تلويث البيئة السورية بشكل مرعب على مدى ملايين السنين القادمة.
لا يتعلق الأمر بجريمة عادية، بل بتهديد حقيقي لأجيال قادمة. وأفظع ما في الأمر أن تحقيق الأهداف العسكرية كان ممكناً باستخدام الذخائر التقليدية، لكن التخلص من النفايات المشعة يكلف مبالغ هائلة، ونهج الفكر الأناني يصر على التعامل مع العالم على أنه موزع على مركز يجب توفير كل شيء له، وأطراف لا أهمية لها ولسكانها، في حين أن العالم صار وحدة متكاملة، وتلوث البيئة يتجاوز الحدود السياسية والعرقية، لذا لابد من التعامل مع القضية بمنتهى الجدية بوصفها مشكلة عالمية لا تقتصر أضرارها على منطقة جغرافية محددة.