أبانا الذي في الأرض!؟
د. نهلة عيسى
خلافاً لتعليمات السلامة “بالتباعد الاجتماعي”، محلات الحلويات والغذائيات مكتظة، حتماً ليس بالمشترين، بل بالمتفرجين فاغري الأفواه، وكأنهم في متحف اللوفر أمام لوحة “الموناليزا”، ولوحات رينوار وبيكاسو وفان كوخ، وليس أمام لوائح أسعار باتت تضاهي لوحات اللوفر في فداحة أثمانها، وصعوبة منالها، وربما – قريباً – التقاط الصور التذكارية لتأكيد الزيارة، لاستحالة الاقتناء!!
خلافاً لتعليمات السلامة، الأسعار نار النار، والرواتب عيدان ثقاب، والناس بدأت ببيع رؤوسها للمسلسلات للهرب من التفكير بالغد، لأن الغد بات يحتاج، لعبوره سالمين، إلى تدابير احترازية شبيهة بتدابير الوقاية من الأسلحة الكيماوية! خاصة وأن مناجاة أبانا في السموات لم تعد حلاً للمشكلات، وأبانا الذي في الأرض أصم، لذلك فالفرجة صارت خياراً بديلاً عن الانتحار، باعتبار أن المسلسلات ومواقع التواصل باتت أشد نكداً من الحياة الواقعية.. و”مين شاف مصيبة غيره هانت عليه مصيبته”!!
خلافاً لتعليمات السلامة، وبصراحة شديدة، حياتنا أصبحت سوداوية! وادعاء عكس ذلك ترقيع بائس لقماش متهالك، وفرار من وجع، خير طريقة لعلاجه.. فضحه. لنحتفظ للحزن بكبريائه، ولا أظن أننا مضطرون، أو من واجبنا إصدار نشرة عن طقسنا النفسي، وكيف نتلمس الوقائع من حولنا، لتوزع على “من يهمه الأمر” في الصالونات المكيفة، استجداءً لحل، ألم أخبركم قبل قليل: أبانا الذي في الأرض أصم، ومناداته مجرد حدث بائس آخر يضاف إلى أحداث أيامنا المجللة بالستائر الكاتمة للنور!، ولئلا تراق القطرات الأخيرة من ماء الوجوه، ولستر شقوق تتسع يوماً بعد يوم في نسيج كراماتنا، المحاصرة بالمحاضرات “بالشولات” عن الشعب العنيد، والامتحانات المستديمة للصبر، وإمضاءات، واجتماعات، ونقاشات حادة على الصواب وعلى الخطأ، ومشاجرات حتى على ركن السيارة، وادعاءات متواصلة بفرح لقيا بشر لديهم الكثير من الوقت للتنطع والادعاء، فيرتشفون أعصابنا ووقتنا قهوة، وثرثرة، وطلبات، وحرد أننا لا نرد على الكلام، ولا الزيارات، وحسد مبطن أننا نبدو بخير، وأننا على أقدامنا مازلنا نسير، رغم أنهم يتوهمون!!
سوداوية حياتنا؟ وهذه ليست (كليشيه)، ولكنها حقيقة أشبه بالمقصلة تطال من يرفع الصوت بأن تشارك الآه في البلاد مع العباد، هو نوع من التصبر، وفعل مقاومة، وقرع جرس لئلا يصدأ الجرس، فيشيخ الغد بانتظار أن يكون غداً، ليُسوق الخوف من الحقيقة، وتُعوم الأخطاء، وتنزع مخالب الجرأة، وتقص أجنحة الحلم، وتغطى بحروف بيضاء محايدة، منشاة، خانقة، كياقات قمصان السهرات، حيث الإيهام بالفخامة والأهمية هدف، بغض النظر عن حال المشنوق والمخنوق بها.
سوداوية أيامنا، لدرجة أن الحديث عن ذلك بات اتهاماً مطاطاً لجداول لامتناهية من المحظورات والحواجز الكلامية والعملية، التي يضاف إليها كل يوم عشرات البنود الجديدة، الممنوع مناقشتها أو التساؤل عنها، والتي تلغي وتجرم كل إشارات التعجب والاستفهام، بل حتى التأوه والأنين، والصدق مع الذات والآخرين والوطن، لدفعنا جميعاً للتساقط عن شجرة الصدق واحداً تلو الآخر بعدما تم قنصنا كالعصافير، لأننا لا نراعي من يريدون النوم على حرير بأن الغد يولد كما الجنين “ورزقه معه”!؟
سوداوية أيامنا!؟ فماذا يفعل أمثالي ممن فشلوا في بيع رؤوسهم لنشرات الأخبار والمسلسلات، وتخلوا عن كل إغراء في الدنيا، سوى إغراء العلن، إغراء النور!! بجد: ماذا يفعل أمثالي، الذين يرون في الصدق سفينة نوح، أو على الأقل أنبوبة أكسجين، تخفف من تلاحق وتهدج أنفاس الوطن، وتخفف من إزرقاق جلده، وتعيد لوجهه بعض النضارة والحيوية، وترسم خطاً فاصلاً بين صواريخ العدو، ومدافع الصديق، وبين الموت ذوداً عن الوطن، والموت كمداً من تجاره، وأسعاره، ومعلقات التجلد التي تتتالى على أسماعنا، دون أن تقول لنا إلى متى وكيف، وترى هل للصمم في بلادنا دواء!؟