هل الجمال سينقذُ العالم حقّا ؟
لم يطلقْ المبدع الكبير “دوستويفسكي”؟. عبارتَه السابقة من موقعه كعالم جمال يمتلك مفهوماً عامّاً وحسب، بل كإنسان عالي الموهبة، يرى أنّه لاشيء في هذا العالم أسمى وأكثر جمالاً من صورة الإنسان. لقد تبيّن بالتّجربة أنّ الموهبة إلى حدٍّ ما هي فوق شخصيّة المبدع. بل كثيراً ما يُذهِل إبداعُ الموهبة المبدعَ ذاتَه، حيث تكشف له خبايا نفسِه شيئاً مفاجئاً، غير متوقّع. هاهو “بوشكين” شاعر روسيا الكبير يصرخُ منبهراً بعد إنجازه لمخطوطة “بوريس كودونوف” التي وجد فيها من الجمال ما أدهشه وفاجأه: “آهٍ منك يابوشكين، آهٍ منك يا بن الكلبة!”. وقد ذُهلَ قبله عالم الفيزياء الشّهير “أرخميدس” لدرجة خروجه عارياً من الحمّام، صارخاً: وجدتُها وجدتها! بعد اكتشافه لقانونه المعروف بـ “دافعة أرخميدس”. وثمّة هتافات قلبيّة أخرى صامتة،لا تقلّ أهميّة، تميّز بها أدب المبدع الكبير “كازنتزاكس”، يقول في أحد حواراته الروحيّة مع شجرة اللّوز: حدثيني عن الله يا أختاه، فتزهرُ شجرة اللوز. كذلك نراها تتجلّى في الغبطة والاستنارة لدى المتصوّفة. ومثلهُم أيضاً تعجّبُ، ابن الفراهيدي المتلصّص على سلوك والده، حين رآه يترنّم بتفعيلات البحور الشعرية ويرقص لوحده مدندناً، فركض إلى أمّه صارخاً: يا ويلتاه لقد جُنّ أبي. لكن لو نظرنا إلى المسألة بوجهها الآخر، ألا نرى بأنّ القبح حين يطغى على العالم سيكون السبب في إنقاذه؟! انطلاقاً من قول الشاعر: “والضدُّ يُظهِرُ حسنَهُ الضدّ”. حيث سيزداد الشعور بضرورة الجمال في حياتنا ويعلو طرداً بازدياد منسوب القبح أكثر فأكثر. قال الروائي السوري الكبير “حيدر حيدر” يوماً، ما في معناه: أنّه يؤمن بتسيّد الجمال ولكن بعد حدوث الحريق الكبير الذي قد يلتهم الغابة ويرمّدُها. حينها ستنبت البتلات العذراء اليانعة من جديد. وقد غمرها التّطهير. بعد كلّ هذا الحريق الذي رمّد غابة السّوري، ما الذي يستطيع بذله ولم يبذلْه فينيقُ سورية، حامل صليب وعذابات العالم أجمع؟ ألا يبدو صمودُه أسطوريّاً؟. هناك من قارب المسألة قائلاً: إنّ الممكنات التي اخترعها السوري لمواجهة الحرب المدمّرة على مدى تسع سنوات كانت أقرب إلى المستحيلات، ومع ذلك ظلّت جعبته ترشحُ بالممكنات البطوليّة الدائمة. بدليل خوضه حرباً رديفة أخرى، وهو بأسوأ الظروف ضدّ جائحة كورونا المستفحلة على مستوى العالم؟. ألم يقل “نابليون” يوماً: الاستحالة هي مثوى الجبناء”. السوريّ لا توجد في قاموسه مفردة الجبن، هو يعرف تماماً أنّه يخوض حروباً مركّبة على كافّة الجبهات. وشعاره الأزليّ: نكون أو لا نكون. يقول المفكّر الديني “نيقولاي فيودوروف” مؤلّف كتاب “فلسفة الشأن العام”: “منذ سنوات الطفولة احتفظت بثلاث ذكريات: رأيتُ الخبزَ الأسود بلون الفحم الذي كان يتغذّى به الفلّاحون في أعوام المجاعة. سمعتُ منذ الطفولة شرحاً للحرب جواباً لسؤالي عنها، دفعني إلى استياء رهيب. في الحرب يطلق الناس النار أحدهم على الآخر، وأخيراً عرفتُ أنّ هناك أقرباء وغرباء، وعرفتُ أنّه قد يكون الناس الأكثر قرباً وقرابة، ليسوا أقرباء بل غرباء”.
في الحرب السوريّة المتجدّدة، كثُرَ البغاثُ بأرضنا واستنسروا، واستوطن الغرباء حقولنا وبيوتنا. الغرباء الذين حوّلوا كلّ قرابةٍ ولحمةٍ إنسانيّة إلى غربةٍ وتفتيت. دقّوا الأسافين والأوتاد في الأرواح، وعمّقوا بوحشيّتهم الصورة الجحيميّة لاغتراب الكائن السوري عن ذّاته وعن وجوده الاجتماعي. هذه الصّورة القبيحة جدّاً، نراها مجسّدة في أدب كاتب إغريقي قديم اسمه “لوقيان” وهو من أصولٍ سوريّة، في كتابه المعنون “تيمون” الذي حمل في طيّاته طابع الفضح الاجتماعي، يقول: “أشعرُ بالاشمئزاز من كلّ من يحمل اسم الإنسان، ولن يمسَّني أيُّ شيء، لا التّواصل الاجتماعي، ولا الصّداقة، ولا الشّفقة. إنّ الشّفقة على البائسين، ومساعدة المحتاجين هما ضعف وجريمة، وأريد أن أنهي أيّامي الأخيرة في العزلة كالوحوش، ولن يكون هناك صديق لتيمون سوى تيمون نفسه، فلتحلّ اللعنة على ذلك اليوم الذي تواصلتُ فيه مع الإنسان !.
ما أحوجنا الآن، لاستعادة روح المواطنة بعيداً عن الهويّات الضّيّقة، وخلق طاقة إيجابيّة حتى من العدم ذاته، طاقة ستغذّي جذور الانتماء فينا من جديد. الانتماء لإنسانيّة الإنسان أينما وجد. تلك التي تغنّى بها، النّحات “آنتوكولسكي” قائلاً: لو سُئلتُ: من أنا، لأجبتُ أنا فنّان أحيا حياة واحدة، لكن حياتي ممتلئة بالحيوات الأخرى. إنّني أحسّ بمشاعر الناس الآخرين، وأحبّهم جميعاً بالدرجة نفسها، ولهم معزّة واحدة عندي، أفرح لفرحهم، لكنّ أحزانَهم هي الأقربُ إليّ”.
أوس أحمد أسعد