“الجرائد الورقية”.. فعل حياة …
لم يصدر أي إعلان رسمي بوفاة الجريدة الورقية في البلاد وفي أنحاء كثيرة من العالم، حتى اللحظة، ما هو معروف أنها توقفت بسبب الكورونا ولأجل غير مسمى، رغم أن العديد من الجرائد الورقية العالمية لم تتوقف عن الصدور في حمأة “الكورونا”، هذا التوقف غير مسمى الأجل والذي من المحتمل أن يكون بروفا نهائية للإصدار الورقي للجرائد، هو في الواقع من أكبر الضربات التي تلقاها الإعلام في العالم عموما، خلال مرحلة طويلة كانت فيها الجريدة الورقية، هي العالم بين يديك، عدا عن كونها رزينة في خطابها، ليس كلها طبعا، فالجريدة الورقية أكثر مما هي عليه عند شرائح واسعة من القُراء، إنها تجربة يومية حية نابضة، علاقة تنشأ صباح كل يوم ومنذ عقود بعيدة، مع ما يمكن تشبيهه ب: “رغيف الخبز التازة”، موعد يومي لسيدة تقضي صباحها وهي تقلب أوراق الجرائد تقرأ هنا، وتقوم بقص مقالة أعجبتها لتضعها في أرشيفها أو تلصقها على الحائط الذي تعتبره كنزها.
هناك من يدعي أن الجرائد للعجائز على المقاهي، وهذا ليبرر عدم قدرته الاستيعابية على قراءة جريدة، وهو أيضا بمثابة هجوم عمومي من حيث يعلم أو لا، على الفكرة التي يروج لها عمالقة التكنولوجيا في صناعة الحواسيب والأجهزة الذكية، الذين أطلقوا هذه “البدعة” الخبيثة بداعي الترويج لبضاعتهم لا أكثر، إنهم تُجار بالنهاية، والقيم هي آخر ما يشغلهم، فما بالكم بالقيمة المضافة والضرورية التي تمنحها الجرائد الورقية، خصوصا في بلد مثل بلدنا وغيره، ليس الجميع متاح له هذه القفزة الالكترونية الباهظة، عدا عن كون قسم كبير من المحتوى الذي تقدمه هذه الوسائل “الذكية” هو هراء بما للكلمة من معنى، عدا السوء المعروف بتضمنها كل ما يخطر ولا يخطر في بال، وخطورة هذا الأمر على أجيال، لا يزال وعيها غضا في التمييز والإدراك والتفريق أيضا، وهذه صعبة على الكثير من الناضجين، فما بالنا بالمراهقين والأطفال؟
الجريدة الورقية هي وثيقة منوعة في يد القارئ، هي رفيق قراءة مثالي، “خفيف نضيف” كما يُقال، موثوق، له مرجعية موجودة، وكُتاب على قيد الحياة، لهم ميزة خطيرة أنهم يحيون حياة القارئ نفسها بل ربما أكثر، وهذا يجعل القارئ مهتما بما يكتبونه في الجريدة الورقية لا الالكترونية التي يمكن أن تختفي في لحظة، وتذهب فرصة أن تكون وثيقة يومية تدل على فعل الحياة نفسه، وهذا من أخطر وأهم ما للجرائد الورقية من ميزات لا يملكها الإعلام الإلكتروني، فالجريدة الورقية تبقى وتعيش طويلا في حال تم الحفاظ عليها بأبسط الشروط، وكم من كاتب عظيم بدأ حياته مع الجريدة الورقية اليومية، التي قاده اشتغاله بها ليخط أبرع الروايات العالمية، خصوصا تلك التي تعتمد في الوصف والسرد والحوار على الجمل الرشيقة التي تخص المقال عادة.
في الجريدة الورقية، قد يحظى القارئ أحيانا بمقالات رائعة وقد لا يحدث هذا، وهذا شأن طبيعي في أي منبر ورقي بالعالم، يواجه المنافسة الشديدة وغير العادلة التي فرضها الإعلام الالكتروني، فلا سبيل للمقارنة بين جاذبية هذا وذاك، لا من حيث الشكل ولا من حيث المضمون وحرية التفاعل وإبداء الرأي التي ما زالت جرائدنا تقفلها في مواقعها الإلكترونية، متجاهلة أهم سبب لوجودها الإلكتروني: تحقيق “التفاعل”، وواقع الحال أن هذا ما تسعى إليه كل المنابر في العالم وبجهد لا يصدق، جذب الجمهور، ومن يطلع على النموذج الأكثر انتشارا ومتابعا لهذه المواقع بأنواعها –فني-ثقافي-ديني، وغيرها- سيجد وبلا جهد، جمهورا عريضا لنوعين من هذه المواقع بشكل خاص، فإما جمهور منفصل عن الواقع وربما لا يحيا فيه من الأساس، ينحرف بشدة لجهة السطحية “الأزياء-صراع المشاهير من أهل الميديا وتصدير مشاكلهم التافهة، الترويج للأعمال الدرامية الهابطة لتصبح الأكثر شهرة، وكأنه اتفاق مبرم بين تلك المواقع على هذه النقطة، ولا يخفى ما الربح المهول الذي تدره هذه الأنواع على أصحابها من هذا الباب تحديدا، التركيز على الجذب البصري بما يعنيه هذا من بذخ إنتاجي لا يصدق لإنتاج الهراء على أنه “محتوى”، استضافة نجوم الفن بشكل سمج وسطحي وكأنهم دمى، الأخبار الكاذبة عن المشاهير المعنونة بمانشيتات تحفز “الفانزات” عليها، على مبدأ الصحافة الصفراء التي صار ربما من الواجب الترحم على بعض من أخلاقها في حال وجدت، أمام الأخلاق الإعلامية المنتشرة والأشهر اليوم.
أما الشق الآخر من الحشود الغفيرة، فهو يتابع ويتفاعل وبشكل لا يوصف، مع المواقع الالكترونية ذات المحتوى الديني المتطرف، حروب تقوم على تلك المواقع بين أجهل الناس على أنهم علماء الأمة! والذي يعمل بلا كلل أو ملل على إشعال فتنة دينية نجح في بعض مراحلها، وليس هناك من عصم نفسه عن الأمر من جميع الأديان، التي وللأسف تصدر أهل الشقاق والنفاق الحديث باسمها على تلك المواقع، وهي بذاتها كافية لا تحتاج للشرح من أي أحد، فهي في جوهرها تعبر عن علاقة الإنسان بالخالق بغض النظر عن الوسيلة، وهذه المواقع كان لها دور كبير في التجييش الطائفي والتحريض على العنف والقتل بل والمباهاة بهذه الأفعال المخزية.
الجريدة الورقية على هشاشتها، هي السدّ الأخير في وجه هذا الطوفان “المعولم”، وهناك الكثير من القراء الذين ينتظرون عودة صدورها، لأنها ليست جريدة ورقية فقط، بل هي وبكل ثقة بالوصف: “فعل حياة”.
تمّام علي بركات