الأمريكيون السود.. جحيم في أرض الأحلام
إعداد: إبراهيم أحمد
نضال السود في الولايات المتحدة هو مثال لنضال متواصل لمجموعة أقلية من أجل مساواة حقوقها في الدولة بالمقارنة مع أبناء الأغلبية. حتى مطلع سنوات الألفين كان السود أكبر أقلية إثنية في الولايات المتحدة، وثاني أكبر مجموعة إثنية (بعد مجموعة البيض) بحسب معطيات دائرة الإحصاء الأمريكية، ومازال نضال السود ضد التمييز مستمراً حتى اليوم بشتى الطرق. هناك من يدّعي أن انتخاب باراك أوباما رئيساً للولايات المتحدة في كانون الثاني 2009 ، يثبت أن السود لا يستطيعون بعد الآن تعريف أنفسهم أقلية مضطهدة، يسوق مؤيّدو هذا الادعاء إثباتات أخرى على أقوالهم، مثل التمثيل العالي نسبياً للسود في الوظائف الهامة في الإدارة الأمريكية وفي الجامعات. أو وجود شخصيات بارزة من السود في المجالات الثقافية وفي الموسيقا والتلفزيون والرياضة، التي تشكل نموذجاً للتقليد بالنسبة للكثير من الشباب في أنحاء العالم. لكن الفجوات الاقتصادية – الاجتماعية بين البيض والسود في المجتمع الأمريكي مازالت كبيرة. وهناك معطى آخر مثير للاهتمام، الذي يفحص نسبة الزواج المختلط (بين السود والبيض) في الولايات المتحدة يكشف أنه في الوقت الحاضر أيضاً في القرن الحادي والعشرين. نسبة الزواج المختلط هي منخفضة للغاية، ومازال السود والبيض في الولايات المتحدة حتى الآن مجموعتين منفردتين. يدّعي المتحدثون باسم نضال السود لمساواة حقوق السود في الولايات المتحدة أن تدهور جزء ملحوظ من السكان نحو الفقر والجريمة هو نتيجة للتمييز المستمر الذي يمارس ضدهم. وأنه يتوجب على الإدارة الأمريكية بذل جهود حثيثة واستثمار ميزانيات كبيرة لإصلاح الوضع، كما ويدعي المتحدثون باسم نضال السود أن الفصل العنصري بين البيض والسود مازال قائماً في الواقع رغم إلغائه في القانون، الأمر الذي أتاح للسود تعريف أنفسهم كأقلية مضطهدة وكمجموعة منفردة داخل سكان الولايات المتحدة .
من العبودية إلى الحرية الشكلية
يرتبط تاريخ أمريكا باستبعاد السود بين الأعوام 1760 و 1830 فقد تم إجبار ما يربو على 12 مليون إفريقي أسود على ترك قارتهم والمجيء إلى العالم الجديد على متن سفن أوروبية، وكان تجار العبيد يستقدمون سنوياً من الساحل الغربي للقارة السوداء، ما يصل إلى 150 ألف إنسان لبيعهم في الجنوب الأمريكي بالذات، حيث كانوا يستخدمون في مزارع القطن. وتذكر المصادر أن نحو ثلاثة ملايين من هؤلاء الأشخاص فقدوا حياتهم أثناء عبور المحيط الأطلسي بسبب الظروف الصعبة والمعاملة السيئة التي كانوا يخضعون لها خلال تلك الرحلات. وكان العبيد يُقاسون شتى أنواع الاضطهاد والإذلال من جانب مالكيهم وعموم المجتمع. كما مات عدد كبير منهم نتيجة ظروف العمل السيئة والجوع والمرض، ما دفع البعض إلى العصيان والهروب من المزارع التي كانوا يعملون فيها. وأصدرت السلطات الحاكمة في الولايات الجنوبية آنذاك قوانين تنظم طريقة التعامل مع العبيد، إثر العديد من حركات التمرد الفردية والجماعية مثل قانون (السود) في جنوب كارولاينا لعام 1740 ومدوّنة 1793 و 1850. و لكن مقابل هذه القوانين الاستغلالية الجائرة نشطت مطالبة واسعة النطاق تدعو إلى إلغاء نظام العبودية بأكمله في الولايات المتحدة، خصوصاً مع اتساع الهوة الاقتصادية بين الشمال الصناعي الغني والجنوب الزراعي الفقير الذي كان بحاجة لاستخدام العبيد في مزارعه، وأسفرت الحرب الأهلية بين 1816 ،1865 عن إلغاء نظام العبودية في عهد الرئيس الأمريكي السابق لنكولن بيد أن هذا لم يؤد إلى القضاء على التمييز العنصري والاجتماعي تجاه السود. فبقيت الأغلبية منهم تعاني أنواع القهر، وبرزت العديد من المنظمات العنصرية البيضاء ممن استهدفتهم ومارست شتى أشكال الترهيب ضدهم، ومنها منظمة “كوكلوكس كلان” التي تأسست عام 1865 لبثّ الرعب في قلوب الأمريكيين السود. ولفترة طويلة لم يكن أعضاء هذه المنظمة راضين بالقرارات الحكومية (المتسامحة) تجاه السود، إذ ظلوا يعتبرونهم فئة ضئيلة الشأن ولا تستحق مساواتها مع البيض أو منحها أية حقوق سياسية، لذلك استمرت هذه المنظمة بممارسة نشاطاتها العنصرية المعادية للسود حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، وشهدت خلالها انتشاراً واسعاً لخلاياها في جميع الولايات المتحدة. وأسهمت قرارات المحكمة العليا التي اعتبرت عام 1954 التمييز العنصري عملاً مخالفاً للدستور في ضرب هذه المنظمة في الصميم، فلم يعد لها أهمية تذكر رغم معارضتها الشديدة لقانون الحقوق المدنية الصادر في نهاية الخمسينيات، ومع بدء تطبيق هذا القانون عام 1964، اندلعت أعمال عنف في ولايات عديدة قامت بها تلك المنظمة ضد المواطنين السود، وشهدت زيادة في عدد أعضائها حيث بلغوا أربعين ألفاً، وأسست لها في السبعينيات قواعد جديدة في الجنوب الأمريكي، لكن الرفض الشعبي العام لمنهج هذه المنظمة العنصري المقيت، وتقييد السلطات الأمريكية لمعظم نشاطاتها أدى إلى انخفاض عدد أعضائها إلى 5 آلاف وانحسر ذكرها كثيراً في التسعينيات. وخلال القرن التاسع عشر حصل في الولايات المتحدة جدل عام حاد بين المعارضين للرق (من الولايات الشمالية الصناعية) وبين المؤيدين للرق (من الولايات الجنوبية الزراعية) أدى هذا الجدل إلى نشوب حرب أهلية بين الشمال والجنوب– التي في نهايتها سنة 1865، تم تشريع قانون إلغاء الرق. ولأول وهلة منح هذا القانون الحرية والمساواة في الحقوق للعبيد، ولكن في الواقع لم ينجح معظمهم في الحصول على حقوقهم بعد تحريرهم. كان معظم السود غير متعلمين ولا يملكون شيئاً، والخيار الوحيد الذي كان لديهم هو الاستمرار في نفس أماكن العمل، لكن هذه المّرة مقابل أجر أقل بكثير من الأجر المتوسط الذي كان مقبولاً في تلك الفترة.
النضال من أجل الحقوق
رغم أن القانون قد أقرَّ أن السود متساوون في الحقوق، قامت بعض الولايات الأمريكية بتشريع قوانين محلية تميّز ضد السود، تميّزت معاملة البيض مع السود بشكل عام بالعدوانية وبالاستغلال. وفي معظم المجالات الحياتية تم تبني سياسة فصل عنصري، حددّت قوانين الفصل العنصري الفصل بين السود والبيض في مجالات عامة كثيرة، منها المدارس والجامعات والخدمات الصحية والمواصلات العامة وغيرها. وفي نفس الوقت انعكست سياسة الفصل العنصري أيضاً في حوادث عنف وتنكيل من جانب مجموعات عنصرية ضد السود الذين انتقلوا للسكن في الأحياء التي اعتبرت (أحياء للبيض). في السنوات الخمسين من القرن العشرين بدأت حركات ومنظمات في الولايات المتحدة في العمل من أجل منع التمييز ضد السود وضد الفصل العنصري. الحادثة التي أشعلت نار الاحتجاجات إلى تغيير في سياسة الفصل العنصري وقعت سنة 1955، عندما رفضت روز اباركس و هي امرأة سوداء تعمل خياطة من مونتغومري في ولاية ألاباما، إخلاء مقعدها في الحافلة لشخص أبيض. في تلك السنوات ألزم القانون في ولاية ألاباما الفصل بين البيض والسود في الجلوس في الحافلات، وألزم السود إخلاء مقاعدهم للبيض إذا طلب منهم ذلك.
إن نيل الأمريكيين من أصل إفريقي لحقوقهم الكاملة كمواطنين في هذا البلد، لم يكن من دون تقديم تضحيات جسام، فقد نظّموا على مدى تاريخ نضالهم الطويل العديد من الحركات السلمية أحياناً والعنيفة أحياناً أخرى للمطالبة بمساواتهم مع البيض، وبرزت زعامات أسهمت في توجيه الجماهير وانتزاع الحقوق المدنية التي ساوت أخيراً بينهم وبين البيض ومن بين أبرز الزعامات (مالكولم اكس) الذي كان في بداية حياته السياسية ينادي بإقامة دولة مستقلة للسود، ولقي مصرعه على يد جماعة عنصرية في 22 شباط 1965. أما الزعيم الثاني فهو مارتن لوثركينغ، ويعد الرمز الأكثر شهرة في تاريخ نضال الأقلية السوداء في الولايات المتحدة، قاد حركات احتجاج سلمية ضد الإجراءات العنصرية المطبّقة ضد المواطنين السود في ولايات الجنوب الأمريكي، وتكلّلت قيادته لتلك الاحتجاجات بكسب العديد من الجولات في مطلع الستينيات ليتخذ من شعار (التغيير بكل الوسائل المتاحة) خطاً يسير عليه للمرحلة التالية من حياته النضالية. قاد لوثر كينغ عام 1963 المسيرة التاريخية في واشنطن المناصرة للحقوق المدنية ولتحسين أوضاع السود في جنوب البلاد. لكن مسيرته السياسية لم تدم طويلاً، حيث اغتيل في 4 نيسان 1968 .
هل تعود الولايات المتحدة إلى عصر العنصرية من جديد؟
تصاعدت في الآونة الأخيرة الحوادث العنصرية ضد السود، سواء كان بطلها الشرطة الأمريكية أو بعض المواطنين البيض، وذلك على خلفية أفكار عنصرية وكراهية للمواطنين السود، لتؤكد أن العنصرية ضد الأمريكيين السود لا تزال مستمرة بعد أكثر من خمسين عاماً من خطبة مارتن لوثر كينج، بل تزايدت في عصر الرئيس الأسود باراك أوباما. فطبقاً لإحصائية أجرتها وزارة الصحة والخدمات البشرية بالولايات المتحدة، فإن عدد الأمريكيين السود الذين ذهبوا ضحايا الحادث الإرهابي في الحادي عشر من أيلول 2011 قد يصل لربع عدد الأمريكيين السود الذين راحوا ضحية الاستخدام المفرط للعنف من قبل الشرطة الأمريكية ضد السود، حيث وصل عدد ضحايا الشرطة في عام 2014 إلى حوالي 1000 قتيل، بينما كان عدد ضحايا حادث الحادي عشر من أيلول فقط 215 قتيلاً. /7/ حوادث بارزة منذ بداية عام 2015 توضِّح عودة العنصرية ضد السود في الولايات المتحدة.
فجّرت هيئة الإذاعة الوطنية بالولايات المتحدة (NBC) مفاجأة من العيار الثقيل في كانون الثاني الماضي، حيث أعلنت أن رجال شرطة ميامي في ولاية فلوريدا يستخدمون صوراَ لأمريكيين أفارقة كأهداف للتدرب على الرماية وإطلاق النار. اعترف مدير الشرطة في مدينة ميامي سكوت دينيس، بالواقعة، مشيراً إلى أن استخدام بعض الصور كان لأهداف مطلوبة بالفعل، ما قد يُضفي لمسة لجعل الأمر حقيقياً أكثر كي تتعرف الشرطة على هذه الأهداف المطلوبة عملياً، وأما البعض الآخر فتم اختياره دون قصد أو عمد من الشرطة. نافياً وجود أي شُبهة عنصرية في الأمر، كما أكد عدم سماحه بتكراره مجدداً. ومنذ ذلك الحين، أطلق نشطاء “هاشتاغ” حياة السود تُهِّم على جميع مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة، والذي يوثِّق انتهاكات العنصريين في المجتمع سواء كانوا عناصر شرطة أو مواطنين عاديين، وفي المقابل، تضامن معهم نشطاء من البيض مطلقين “هاشتاغ” حياة الجميع تُهِّم لإعلان اتحادهم ضد العنصرية والكراهية في المجتمع الأمريكي. كما قُتل الشاب صاحب الأصول الأفريقية والتر سكوت في الرابع من نيسان الماضي في ولاية كارولينا الجنوبية، وذلك إثر إطلاق النار عليه من قبل شرطي أبيض متعصب يُدعى مايكل سلاجر، مقتل سكوت أعاد إلى الواجهة الجدل حول استخدام الشرطة للقوة المفرطة والعلاقات بين البيض والسود في الولايات المتحدة، يأتي ذلك بعد سلسلة من الاحتجاجات وأحداث العنف التي لاحقت الولايات المتحدة في العام الماضي بعد حادث مماثل عندما أطلق شرطي النار على المواطن مايكل براون ست مرات على الأقل في آب 2014. كما تظاهر الآلاف في مدن نيويورك وبالتيمور وواشنطن وبوسطن احتجاجاً على استهداف الشرطة للسود، وشهدت بالتيمور أكبر المظاهرات، حيث شارك عدة آلاف من الشباب في مسيرة كبيرة توجهت نحو مقر الحكومة المحلية وشلت المدينة. واتسمت المظاهرات بالهدوء والسلمية في البداية، ولكن بعد قيام الشرطة في نيويورك بإلقاء القبض على أكثر من 60 متظاهراً اشتعلت أعمال الشغب في المدينة، ما دفع حاكم مريلاند لإعلان حالة الطوارئ، كما فرضت عمدة المدينة حظر التجول الليلي.
إثبات العنصرية ضد السود بالدليل
في السادس من أيار 2015، نشر شاب فيديو على موقع يوتيوب يوضح عنصرية الشرطة الأمريكية مع المواطنين السود وتآمرها مع المواطنين البيض ضدهم، حيث أظهر النصف الأول من الفيديو رجلاً أبيض يحمل سلاحاً متجولاً به في الشارع، فقام الشرطي بالاقتراب منه وسأله بعض الأسئلة ثم طلب منه هويته، لكن الرجل الأبيض رفض تسليم هويته فلم يقم ضابط الشرطة بأي رد فعل عنيف ضده. ولكن في المقابل يظهر النصف الثاني من الفيديو نفس الفعل، ولكن يقوم به رجل أسود، وفي هذه الحالة أظهر رجال الشرطة رد فعل صادم، حيث قاموا بإجباره على التوقف والانبطاح تحت تهديد السلاح، محاولين اعتقاله. ويوم الجمعة الماضي تُوفي جورج فلويد، الرجل الأسود الذي قضى خلال توقيفه في مينيابوليس،على يد قوات الشرطة، حيث قام أحد ضباط الشرطة بتثبيته على الأرض والضغط على عنقه حتى لفظ أنفاسه، وقد اكتفى مركز الشرطة في مينيابوليس بفصل المتورطين في الجريمة من عملهم. من جهتها قالت السيناتور كامالا هاريس – المدعية العام السابقة لولاية كاليفورينيا: “إنه عمل تعذيب وإعدام علني في مجتمع يتسم بالعنصرية”. وكتب باراك أوباما الرئيس الأمريكي السابق في بيان “يجب ألا يعتبر هذا أمراً عادياً في أمريكا 2020، ولا يمكن أن يكون عادياً”. وأضاف: “إذا أردنا أن يكبر أولادنا في بلد يكون على مستوى أعظم قيمة، بإمكاننا ويجب علينا القيام بما هو أفضل”، معبراً عن شعوره “بالحزن نفسه” الذي يشعر به ملايين الأشخاص بعد مقتل فلويد الذي تسبب بتظاهرات في مختلف أنحاء الولايات المتحدة تخللتها أعمال شغب في مينيابوليس بولاية مينيستوتا
إذا كانت حقوق الأفراد مضمونة بحكم القانون حالياً في الولايات المتحدة، فإن الفوارق الاجتماعية والطبقية تهمّش المجموعات العرقية المسحوقة. فبعد سنوات من بدء اندماجهم الذي تكفله التشريعات داخل كيان الدولة الأمريكية، لا يزال عدد كبير من السود يعاني من التفرقة العنصرية في العديد من الميادين. رغم كل ما تقدم فإن المجتمع الأمريكي الحافل بالتناقضات سمح بانطلاقة قسم من أبناء الأقلية السوداء ممن توافرت لديهم المؤهلات لمواجهة المعوقات التي تقف أمام تقدمهم، فقد استطاع عدد لا بأس به من هؤلاء بلوغ مواقع رفيعة المستوى في ميادين شتى، وكان ذلك بفضل قانون الحقوق المدنية الذي أتاح للأجيال الجديدة الالتحاق بالصفوف الدراسية والحصول على مكاسب لم تكن الأجيال التي سبقتها تحلم بها. ونجح شباب من ذوي البشرة السوداء في دخول ميادين القضاء والطب والتعليم والصحافة والفن والمحاماة والرياضة وإدارة الأعمال والسياسة. وباراك أوباما – الرئيس الأمريكي السابق هو من أم بيضاء وأب أسود مهاجر من كينيا هو الذي كان يدير دفة الحكم في الولايات المتحدة، لكن مشاعر العنصرية من طرف البيض لم تنحسر بالمطلق.