الشرطة الأمريكية والسود.. سجل حافل بالعنف والعنصرية
د. معن منيف سليمان
يزخر تاريخ الشرطة الأمريكية بسجل حافل من العنف والعنصرية الذي تمارسه ضدّ السكان السود، وقد كشفت تقارير أعدّها ناشطون حقوقيون عن قيام دوائر الشرطة الأمريكية بقتل أشخاص سود بشكل رهيب وغير إنساني، كان آخر فصولها الجريمة البشعة التي ارتكبتها الشرطة بحق المواطن من أصول أفريقية “جورج فلويد” خلال عملية توقيفه. وكردّ فعل على استمرار هذه الممارسات العنصرية، نشأت في المجتمع الأمريكي الأفريقي حركات تهدف إلى التخلّص من العنف ضدّ الأشخاص السود. وعلى الرغم من الانتقادات والإدانات الكبيرة والمتواصلة، واقتراح كثيرين حلولاً لقمع العنف، إلا أن هذه الممارسات لا تزال في تصاعد خطير، أثارت قلق العديد من المنظمات والمؤسسات المعنية بحقوق الإنسان، وأثبتت بما لا يدعو للشك زيف الشعارات التي ترفعها الولايات المتحدة بخصوص الدفاع عن قضايا تتعلّق بحقوق الإنسان.
مسلسل العنف والعنصرية الذي تمارسه الشرطة الأمريكية ضدّ السكان السود، الفئة المهمّشة في المجتمع الأمريكي، التي تعاني أكثر من غيرها من مشاكل الفقر والبطالة وتدني مستوى التعليم والخدمات الاجتماعية، لا يزال في تصاعد خطير للغاية، فقد فتح مكتب التحقيقات الفدرالي في ولاية “مينيسوتا” الأمريكية” تحقيقاً في وفاة أمريكي من أصول أفريقية، يدعى “جورج فلويد”، بعد انتشار فيديو لشرطي يضع رجله فوق عنق الرجل المطروح أرضاً وهو يستغيث، ويقول للشرطي مراراً “لا أستطيع التنفس لا استطيع التنفس.. لا تقتلني”.
وتذكر هذه الحادثة بوقائع سالفة تعامل فيها أفراد من الشرطة بعنف مع مواطنين سود، ومنهم “إيريك غارنر”، الذي مات في ظروف مشابهة في مدينة “نيويورك” في تموز عام 2014. وكان “غارنر”، وهو رجل أسود غير مسلّح، قد ردّد هذه العبارة إحدى عشرة مرّة بعد اعتقاله من قبل الشرطة للاشتباه في بيع سجائر بشكل غير قانوني. كانت الكلمات الأخيرة للرجل البالغ من العمر 43 عاماً، الذي توفي بعد أن خنقه ضابط شرطة. وأصبحت عبارة “لا أستطيع التنفس”، صرخة حاشدة وطنية ضدّ وحشية الشرطة في الولايات المتحدة بعد وفاة “إريك غارنر”.
ومنهم أيضاً “مايكل براون” هو شاب أمريكي من أصول أفريقية، كان يبلغ من العمر 18 سنة، قتل في ولاية “ميزوري” الأمريكية في آب عام 2014 بعد إطلاق النار ست مرّات على الأقل، من قِبل ضابط شرطة أبيض البشرة. ومنها كذلك الحادثة الأشهر، لطفل يبلغ من العمر اثني عشر عاماً يدعى “تامير رايس”، يحمل دميته التي تمثلت في مسدس مزيّف، حيث أطلق شرطي أمريكي النار مرتين على الطفل وأرداه قتيلاً في متنزه بمدينة “كليفلاند”، وغيرها من الحوادث المشابهة لا سبيل لذكرها الآن.
وفي هذا السياق أفادت بيانات جمعها ناشطون يديرون مشروع رصد عنف الشرطة، ومصادر متعددة أخرى منها: موقع “فاتال إنكاونترز دوت أورج” وموقع “كيلد باي بوليس دوت نت”. وبالإضافة إلى ذلك كانت تجرى بحوث عبر وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي وإعلانات النعي وتقارير الشرطة وغير ذلك من المصادر. أفادت إن الشرطة في الولايات المتحدة قتلت 1152 شخصاً على الأقل في الولايات المتحدة خلال عام 2015، حيث قتلت 60 من أكبر دوائر الشرطة أشخاصاً سوداً بشكل غير متناسب. يأتي هذا في مناطق بلغت نسبة الأمريكيين فيها من أصل أفريقي 20 بالمئة فقط.
ويجمع المشروع البيانات عن كل استخدامات القوة من جانب الشرطة التي ينجم عنها سقوط وفيات بما في ذلك إطلاق النار والخنق والسيارات ومسدسات الصعق الكهربائي. ويشمل ذلك القتل غير المتعمد مثل الذين يتوفون بسبب حالة طبية طارئة في أثناء اعتقالهم أو تقييد حركتهم وكذا الحوادث التي يقوم بها أفراد الشرطة وهم خارج الخدمة. وأدّت أعمال القتل على يد الشرطة ولاسيما التي يذهب ضحيتها سود إلى اندلاع احتجاجات في عدد من المدن الأمريكية خلال عامي 2013 – 2015.
وجاء في التقرير إن دوائر الشرطة ذات النسب الأعلى من عمليات القتل النسبية هي “بيكرفيلد” بـ”كاليفورنيا” و”أوكلاهوما سيتي” بولاية “أوكلاهوما” و”أوكلاند” بولاية “كاليفورنيا” و”نيو أورليانز” و”سان فرانسيسكو”. وتشمل هذه القائمة أيضاً إدارة شرطة “إنديانابوليس متروبوليتان” وإدارة شرطة “سانت لويس متروبوليتان”. وذكر في التقرير أيضاً إن التهم التي توجه لضباط الشرطة الذين يستخدمون القوة المميتة نادرة للغاية وإن استخدام الشرطة للقوة المميتة غير مرتبط بنسب الجريمة العنيفة. وأفادت الدراسة أيضاً أن 33 بالمئة من السود الذين قتلتهم الشرطة لم يكونوا مسلّحين مقابل 18 بالمئة من الضحايا البيض.
وإزاء هذا العنف المتصاعد نشأت في المجتمع الأمريكي الأفريقي حركة حملت اسم “حياة السود مهمّة” تهدف إلى التخلّص من العنف ضدّ الأشخاص السود. تنظّم الحركة مظاهراتٍ ضدّ مقتل أفراد من العرق الأسود من قبل ضباط الشرطة بشكل منتظم، بالإضافة إلى مشاكل أخرى تتركز حول التنميط العنصري وعنف الشرطة واللا مساواة القائمة على العنصرية في النظام القضائي في أمريكا.
ويقترح كثيرون حلولاً لقمع العنف لم يثبت جدواها، فبعد الضجة التي أثارها مقتل “مايكل براون”، ازدادت الآمال في قدرة التكنولوجيا على إصلاح نظام معطل، ألا يسمح الطلب من الشرطة وضع كاميرات محمولة على أجسامهم من تعزيز المحاسبة؟
وبحلول عام 2015، أفادت 95 بالمئة من مراكز الشرطة الرئيسة أنها تستخدم هذه الكاميرات أو التزمت بذلك. ولكن الأبحاث أظهرت أنه لم يكن لهذا الإجراء تأثير على سلوك عناصر الشرطة.
ويبدو أيضاً أن الاستراتيجيات المشتركة لتقليص الانحياز العرقي، لم تثبت جدواها. ففي الولايات المتحدة، يتعرّض السود للقتل على يد عناصر الشرطة البيض أكثر بثلاث مرّات من المواطنين البيض.
وعلى الرغم من الفكرة التي تقول: إن تنويع قوات الشرطة ضمن إصلاحات قضائية، يمكن أن يسدّ هذه الثغرة، إلا أن بعض المتخصّصين في القضاء الجنائي، أكدوا أن الإجراء لا يحقق غايته على الأرجح. فشرطة “بالتيمور” مثلاً تضم أفراداً من كل الأعراق، ومع ذلك، تورّط المركز في عام 2016 في سلسلة سياسات منحازة عرقياً وغير دستورية.
ووفق صحيفة “وول ستريت جورنال”، فإن عدداً ضئيلاً جداً من المواطنين السود يسمح لهم أن ينضموا لفرق الشرطة الأمريكية خاصة في المجتمعات ذات الكثافة السكانية لهم، حيث قدّر عددهم بنسبة 12 بالمئة من الشرطة المحلية وفق إحصائيات مكتب العدل.
يأتي ذلك وسط مطالبات للإدارات المحلية بتوظيف المزيد من المواطنين من أصل أفريقي في جهاز الشرطة الأمريكية، بسبب انعدام الثقة بين المواطنين والجهاز، كما يواجه المرشحون السود عقبات عديدة منها اختبارات تحريرية لم يعد معمولاً بها حالياً.
وقد وجهت اتهامات عديدة لجهاز الشرطة بالتحريض على قتل المواطنين السود، حيث استخدمت صوراً لهم كأهداف للتدريب على إطلاق النار داخل مقرّات الشرطة. وتعدّ هذه الحوادث الأبرز خلال السنوات الماضية التي تشهد على “عنصرية” الشرطة الأمريكية.
إن تصاعد وتيرة العنف والعنصرية من قبل عناصر الشرطة تجاه السكان السود استدعى الأمم المتحدة أن تدعو السلطات الأمريكية إلى احترام الحريات وعدم التميز، مطالبة إياها بتعزيز محاسبة أفراد الشرطة على أفعالهم. وعبرّت منظمات حقوقية ومؤسسات دولية عن قلقها بشأن عنف الشرطة الأمريكية والاستخدام المفرط للقوة من قبل عناصر الشرطة ضدّ المحتجين وكذلك الاعتقالات، ناهيك عن قضية التمييز العنصري وكان الأمين العام لمجلس أوروبا “ثوربيورن يغلاند” قد أكّد سابقاً أن أعمال الشرطة الأمريكية هذه “تعدّ خرقاً لكل القوانين والمواثيق الدولية”.
إن حوادث قتل المواطنين السود المتكرّرة وتبرئة الشرطة أثارت تساؤلات كثيرة حول هذه التجاوزات وعدالة القضاء الأمريكي، وبحسب بعض الخبراء فإن هذه الممارسات قد أثبتت زيف الشعارات التي ترفعها الولايات المتحدة بخصوص الدفاع عن قضايا حقوق الإنسان.