“نبي للحب”.. حين يصير الشعر حكاية
مدن مقهورة منهوبة تكسرت سنابل أحلامها.. مدن مشتعلة تمور بالحرائق وبلاد معمّدة بألسنة الخراب.. وطرق تشهد أقدام الفارين التواقين لوجه الرغيف.. وموج مسافر يغرقُ بدمع طفل يتيم وأشلاء أغنية مهاجرة.. أسئلة عن الرحيل والنزوح والغربة القسرية لمن ابتلعتهم مياه البحار ومراكب الهاربين من الموت إلى موت آخر أمرّ وأقسى.. وحكايات تتناسل وتتطاول حتى تصبح قصيدةً تحتسي قهوة وجعها على مهلٍ وترثي لأعياد مشتهاة لم وربما لن تأتي.. وليالٍ تحترفُ البكاء وذاكرة كالرحى تدور وتدور.. امرأة قصّوا ضفائرها وصلبوها في محراب الحنين فباتت خريفاً منسياً.
على هذه الثيمة.. ثيمة الفقد والوجع والغياب، تبني الشاعرة هناء العمر في ديوانها “نبي للحب” فصول حكاياتها المشتهاة، وتمزج بوعي العارف وبما ملكت من إمكانات فنية ولغوية وذائقة بصيرة مستبصرة بين الشعر بعذوبته وكثافته وصوره المتوهجة المدهشة، والحكائية القصصية بمتعة تقليب أحداثها واستذكار شخوصها التي تشبهنا في الكثير من ملامحها، كل ذلك في سرد مضمر يجاور القصيدة بحذر مطلق دون أن يلتهم شيئاً من جماليتها وبنيتها وغاياتها المطلقة المرسلة في نحو أربعة وثلاثين نصاً نثرياً اتكأت بشكل لافت على ثقافة الشاعرة ومخزونها الوجداني وإيمانها وثقتها بما تكتب وقد حمّلته بعضاً من حزنها الدفين وفرحها المتواري خلف روح تواقة للانعتاق وتحقيق كينونتها المأمولة.
ولئن تبدّى إتقان هناء العمر لقصيدة النثر فناً ولغةً، وقدرتها على التقاط اللحظة الشعرية وتصويرها وتجسيدها كما ينبغي، والسير بموضوعها حتى النهاية دون اجترار لأفكارها وتكرار لمفرداتها وجملها إلى حدّ ما، فإن ما يمكن الإشارة إليه أن النصوص قد تفاوتت في فاعليتها وتأثيرها ورسوخها في ذهن القارئ ووعيه، ففي حين نلمس ذرى متعدّدة تتصاعد بمنطق الشعر ودوره والتجديد فيه، كما في “ترانيم النزوح” و”إيقاعات عاشقة” و”صليب الروح” و”رقصة الضوء” و”أمنيات على جدار القصيدة” و”أنت لي”، فإنها تذهب إلى النمط الاعتيادي في “موعد للحنين” و”فلسفة الحواس” و”سهاد” و”حقل الأريج” و”شاعر”.. وفي الوقت الذي نقف أمام اتساع دلالة العنوان وغواية تأويله كما في “كناي أحترفُ البكاء” “إسراء الضوء” و”نمنمات على ثغر” و”عطر دمعة” مثلاً، فإننا نتساءل لماذا تكرّر الشاعرة المفردة نفسها في عنونة نصوصها كما في “شهوة الضوء” و”إسراء الضوء” و”رقصة الضوء” أو في “صليب الروح” و”مرآة الروح” و”وشم في الروح”؟!.
على أن ما يمكن الانتباه إليه في تجربة الشاعرة هناء العمر أنها تلجأ في مجمل قصائدها إلى السرد المضمر كما أسلفنا، وهو ما يمكن اعتباره فتحاً للحدود بين فني الشعر والقصة بما تضمنه “نبي للحب” من حكايات تعلنها الشاعرة صراحة في قصيدة “شهوة الضوء” ص22:
كأني لستُ أنت..
ولستَ أنا..
وحكاياتنا طويت في أدراج الذاكرة..
وكأننا.. في زحمة الانشغال المرير
نسينا السؤال عن أحوال بعضنا
فراحَ الحبُّ يبحث عن نبتةٍ
تصافح أحداقَ الصباح
في بيادر الأمنيات..
أما في قصيدة “ترانيم النزوح” فإن الشاعرة تستلهم تراجيديا الحرب عبر استحضار وجوه من رحلوا أو ابتلعهم المجهول والليالي المقفرة، وكيف صارت الأرواح منازل تهاوت جدرانها تقول ص10:
ستموت أمك الملتاعة قهراً
دون أن تملأ عينيها من بريق وجهك
في النزع الأخير
فلاااا تحمل صورتها تذكاراً
أو قولها:
اهدِ ماضيك للنسيان
وامضِ بعيداً دونما رفيق
لمجهولٍ مدلهِمٍّ
وحظِكَ العاثر
لتقضمَ حصّتَكَ من رغيفِ التّسكعِ
صارعِ الأمواجَ إلى أن يبتلعَكَ
فمُ البحرِ
أو يلفظَكَ أيها الغريبُ
فالعواصمُ تنتظرُكَ لتُعفرَ شوارعَها
بأقدامِ امتهانِك
وتُعلقَ على مِشْجَبِ عُنُقِكَ
معاطفَ الحرمانِ والرغبات!
ردّدْ كلَّ وقتٍ أغنيةَ النزوحِ..
وتغرقُ الشاعرة في قصيدة “صليب الروح” في لجة الذاكرة البعيدة لتستعيد صور وحكايات الأحبة وقد استبدّت بها الوحدة وأوغلت في الشرود وتعمّقت الانكسارات في مفاصل حياتها، بعد أن استشرى الطاعون بجسد البلاد، مستخدمة الفعل المضارع في تصعيد الحالة الدرامية لتلك الحكايات المستعادة (أمرر، أدخل، أستعيد، أنفض، أغتال، أتسلّل، أمطر…) ولنجد أننا أمام شخصيات تكتمل بها فصول الحكاية (الأم، الأب، الجدة، الجيران…) وأماكن أثيرة في الروح التي أهرمها الانتظار، هذه الأماكن التي تعجّ بورق التوت وضحكات الحبق والكستناء المشتهى ورائحة التنور في حاكورة البيت ودالية تتدلى عناقيدها كالقناديل.. تقول الشاعرة ص34:
أدخلُ محرابَ الحنينِ
أستعيدُ صلواتِ أمي
وجهها السماويّ
راحةَ كفها الحنون
رنةَ الحزن بهدهدة الأغاني
سرَ رقيتها الطاردة
شرّ أرواح غزت مضاجعنا..
أنفضُ عن وجهي غبارَ الوجلِ
زغبَ الترددِ..
أغتالُ صمتي وأعتلي
نسائمَ مصيافَ عروسِ المدائنِ
لتراتيل أبي يوسف لقرآن الفجر
ليديه المخضّبتين بكرمٍ حاتمي
أبوابهُ مشرعةٌ
برحابةِ رغيف الحبِّ
رائحةُ التنور في حاكورة البيت
تتعشق أنفاس الضيوف.. والأزقة.
وكذا الأمر يتجلّى في قصيدتي “وشم في الروح” و”قرابين”، حيث تفتح الشاعرة دفتر القلب لتدوّن روحها حكاية جرح جديد تكوّم فوق ركام الحزن على رصيف منسيّ في أوطان صارت منافي وشهقات لموت مؤجل.
إن أشدّ ما يمكن الخروج به من محراب تجربة هناء العمر أنها شاعرة نذرتْ قصيدتها –في قولها الأعمّ- لقضية الإنسان، أي إنسان، وإلا كيف ستغيب عن روحنا ووجداننا وذاكرتنا صور الأم الرؤوم تزفّ ولدها الشهيد، أو أسماءنا التي صارت في قوائم المشردين أرقاماً، أو الدروب المسكونة بالنحيب وأشلاء الإخوة، أو الموت الذي يهدينا برصاصة ليست طائشة موتاً جديداً.. لكن وعلى الرغم من كل ذلك الألم وتمدّد الركام والخراب ثمّة أمل بأننا سنكتب ونرتب فصول حياتنا كما نشتهي لا كما يشتهون، تقول ص142:
سنكتبُ تقويماً جديداً كما يليقُ
بعذاباتنا.. وأسفارِ موتنا
أو من رمادِ احتراقنا.. نوقد جمرتنا
حاملين نعش خيباتنا
متأبطين صليبنا.. ومواويلَ مخضبةً بنزيفنا..
ثمة أسرابٌ للأمنيات
تخفقُ بجناحي الأفقِ
ودمعةٌ أخيرة تسقط من مآقي طفلِ المجزرة
نغسلُ بها ما تبقى من أسانا
نرتب مفردات فرحنا بأبجديات الندى
وعند معبر النور
سنرى يد الله تغرس سنبلة
بحجم وطن.
عمر محمد جمعة