ثقافةصحيفة البعث

الرأسمال المهدور لدى المجتمعات والأفراد!

 

على المستوى الشخصي والوجودي والجمالي، هناك رأسمال رمزي “جيني” مشفّر مطمور يمتلكه الإنسان كطاقة مخزّنة في تربته الداخلية العميقة غالباً دون أن يدري، نستدل عليه كوجود فاعل، ممتحَن بالتجربة أثناء مواجهتنا لظروف نوعية تتطلب مقدرات غير مألوفة، حينها ينبثق بحتمية عالية، متدفقاً، مطواعاً لينجدنا ويشد من أزرنا بقوة في اللحظات الفارقة شديدة الكثافة، لدرجة قد نستغرب فيها نحن أنفسنا كيف استطعنا الصمود وتجاوز العوائق والأخطار دون أن ننهار، وهذا ما نلمسه وقت الكوارث الكبرى أو موت الأعزاء مثلاً.

والسؤال الآن: ماذا لو استُثمرت هذه الطاقات في حياتنا – مجتمعات وأفراداً – بشكل واع لإنتاج الإبداع بتجلياته المختلفة بدلاً من تركها خاملة أو مهدورة بشكل مجاني؟ مثلاً، قد نصدف فتاة بغاية الجمال، لكنها في الوقت نفسه بغاية البلاهة، جمالها معلّب لا روح فيه، أشبه بأيقونة، لا تُحسن استثمار جاذبيتها بالمعنى الإيجابي كقيمة مضافة لرأسمالها الأنثوي المخزون الذي وهبتها إياه الطبيعة.. هكذا تبدو لمن يراها، متعجرفة فارغة، أقرب إلى التفاهة، تجلس في برج عاجي، وتنظر بدونية إلى الآخرين، هي ببساطة تدل بسلوكها المبتذل على أنها لم تع رأسمالها الخفي ككائن بشري يمتلك روح الجاذبية الخيّرة.

أما على المستوى الثقافي الأحفوري فتمتلك المجتمعات كما الأفراد تراثاً مخبوءاً، كبيراً، سواء في بطون كتبها، أو عقول أبنائها، أو أعماق أرضها، كرأسمال ميت لم يُكتشف بعد، ما يلزم فعله فقط هو التفعيل والتحفيز وإعادة الاكتشاف والإنتاج، وإذا ما أخذنا الجانب الاقتصادي نرى أن العالم الغربي الأمريكي والأوروبي قد نجح في وعي ذاته، وإدراك قيمة مخزونه الثقافي والاقتصادي الخامل، وعرف كيفية تحويله إلى رأسمال منتج فعّال، لذلك نراه يبدع في مجالات كثيرة، بينما تُتهم بلدان العالم الثالث بعدم وعي رساميل مالها المختلفة على كافة الصعد، وأن أفرادها لا يمتلكون الذكاء المطلوب، ويفتقرون لثقافة المقاومة، وثقافة توجيه السوق والشكل الفكري الصحيح، وهم عاجزون عن التخلص من أعباء الإرث الاستعماري الذي تحتفظ به ذاكرتهم، ولاوعيهم الجمعي، لكن الواقع يقول غير ذلك، وهو أن بلدان العالم الثالث لا تنقصها القدرة المدهشة والحيوية على اعتصار الربح من لاشيء أحياناً، والإلمام بالتكنولوجيا الحديثة مهما بلغت درجة تعقيدها، وإلا ما معنى نهوض دول نامية وعملاقة كالهند والصين والبرازيل وإيران وماليزيا وغيرها؟.. إن شعور التفوق لدى الغرب، وبالتحديد الأمريكي، جعله يعتبر أن من حقه إلحاق العالم كله به، وربط ثروات البلدان بعجلته الاقتصادية، لذلك نراه يلجأ دوماً إلى إثارة القلاقل والاضطرابات في بؤر كثيرة من العالم، وبالتحديد في الأماكن الغنية بالثروات كالشرق الأوسط مثلاً.

لعل جدية الأرقام والوقائع التي أجراها الباحث الاقتصادي هرناندو دي سوتو في كل من آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية تضع الملح على الجرح بتأكيدها أن معظم فقراء هذه البلدان يمتلكون الأصول الهائلة التي يقتضيها نجاح تجديد دورة رأس المال، لكن هذا الرأسمال يوجد بأشكال غير تامة: (منازل مبنية على أرض حقوق ملكيتها ليست مسجّلة بشكل كاف، أعمال حرة غير منتظمة، صناعة قائمة بمكان لا يستطيع المموّل والمستثمر أن يراه، حقوق الممتلكات غير موثقة بشكل كاف)، لذلك لا يمكن تحويل هذه الأصول إلى رأسمال، ولا يمكن الإتجار بها خارج دوائر ضيقة، حيث ينشأ بين الأهالي “عقد اجتماعي” قوامه ثقة الناس ببعضها البعض، لكن ذلك لا يشكّل ضماناً حقيقياً لقرض أو سهم أو استثمار ما، وهذا ما نجده مجسّداً في العشوائيات السكنية الضخمة التي ظهرت كثآليل قبيحة على وجه مدن وعواصم بلدان العالم الثالث، والتي تغفو على بحر متلاطم الموج من الرساميل الخاملة، هنا يبرز الفرق واضحاً بين طبيعة الأصول في هذه البلدان وطبيعتها الموثقة بشكل كاف في الغرب، حيث إن دورة الاقتصاد الخفية الناتجة عن ارتباط هذه الأصول ببقية فروع الاقتصاد مكتملة، ما يجعلها تقود حياة خفية موازية لوجودها المادي “كأن تُستخدم كضمان لقرض مثلاً”، ففي مصر، كما يقول الباحث، يبلغ حجم الثروة التي كدّسها الفقراء 55 ضعف المبلغ الذي جلبته الاستثمارات الأجنبية بما فيها قناة السويس وسد أسوان، وفي هاييتي البلد الأكثر فقراً في أمريكا اللاتينية يزيد ما يملكه الفقراء من “أصول” على 150 ضعف الاستثمار الأجنبي الذي تلقته منذ الاستقلال عن فرنسا عام 1804م.

أثمة لغز في المسألة بأن الغرب قادر على رؤية أصول ملكيته، وتنمية رأسماله عكس الآخرين الذين يعرفون أنها موجودة، ولكن لا يستطيعون رؤيتها والوصول إليها لأنها ليست ملموسة، كفكرة الوقت الذي لا يُرى، ولكننا نستطيع معرفته من خلال “روزنامة أو ساعة”، إن تطور الإنسان يشهد بمثل هذا النظام التمثيلي لقوننة الإدراك والوعي الإنساني منذ اختراع الأبجديات وحتى الآن، كل ذلك جرى كمحاولة لتلمّسه الطريق في العتمة، بالطريقة نفسها عمل الفنانون والأدباء ومنظرو علم الجمال والنفس والمفكرون في نبش المطمور الإنساني الخفي، ومثلهم عمل الاقتصاديون العظماء بكشفهم رأس المال الخفي الذي يرى به الآخرون مجرد “خردة”،. فكما أننا محاطون بموجات كهراطيسية لا نراها، كذلك نحن محاطون بأصول ممتلئة برأس مال خفي استطاع الغرب فك تشفيره، وتحويل غير المرئي إلى مرئي، منتجاً بذلك رأسماله الضخم والحي في الوقت نفسه، هكذا، قد نعرف كيفية استخدام الكثير من الأشياء دون أن نفهم آلية عملها، وإلا كيف عرف مربو الحيوانات الشيفرة الوراثية قبل تفسير ماندل لها؟.

أوس أحمد أسعد