أخيراً الحرائق.. العالم يلتهب
د. عبد اللطيف عمران
أقدم الأمريكان والأتراك ومرتزقتهما على جريمة حرق المحاصيل الزراعية في سورية العائدة للفلاحين وليست للدولة، وذلك في معمعان حرائق من نوع آخر يلفح لهيبها العالم أجمع، حرائق يتراجع معها طرح (نهاية التاريخ) ليتقدم عليه طرح (نهاية العالم) بسبب استراتيجيات (التنمّر) الصهيوأمريكية التي عبرت بقلق عن تراجعها مجلة Foreign Policy الأمريكية في عددها لشهر آب 2019، إذ “بدأت دول العالم تتصرف وكأنه لا وجود للولايات المتحدة الأمريكية”؟!
لا شك في أن الحياة العامة اليوم في هذه المنطقة من العالم صعبة على المستويات المحلية والوطنية والعربية، والدولية أيضاً، لكن هذه الصعوبة ليست التحدي الوحيد أو الأكبر في تاريخنا، فكثيراً ما واجهنا تحديات ومصاعب كهذه في الماضي البعيد والقريب، وكانت الطاقة الكامنة في روح الشعب والأمة تؤهّلنا للبعث والحضور والتجدد.
العرب، أقطاراً وأمة، هم اليوم أمام سؤال المصير الذي يصعب عليهم الاستجابة إليه والإجابة عنه، وهذه ليست المرة الأولى، لا عندهم ولا عند غيرهم من شعوب الأرض.. إلّا أننا مازلنا نملك عوامل قوة هي أكثر مما خسرناه، فقابلية التفاؤل أكثر جدوى من اليأس.
عادة ما يكون لسرديات أسئلة الوجود والمصير المقلقة شجون وجماليات، وذلك على غرار ما عمّ العالم من فلسفة الوجود وأدبياتها المتنوعة جراء الحرب العالمية الثانية: عدم ووجود – منتمٍ ولامنتمٍ – التزام وعبث.. إلخ، ومعها وبعدها وصلت الإنجازات الكبرى في شتى المجالات إلى ذروتها، لكن ها هي تهوي اليوم دون أن يعرف البشر: إلى أين؟.
قد لا يكون هناك من ضرورة لإعادة التذكير بالاستهداف الوحشي للحياة الوطنية والعروبية، ولاسيما في سورية: قلب العروبة النابض، هذا الاستهداف الذي اتضح وتأكد أنه لم يكن فقط لقيادة سياسية، ولا حتى لنظام سياسي – مع وعي الفرق بين القيادة السياسية والنظام السياسي – ولا حتى للجيش الوطني العقائدي فحسب، بل هو استهداف للدولة وللمؤسسات الوطنية العامة والخاصة، استهداف لمصالح الشعب ولروحه المعنوية والمادية.
فقد عرفنا خلال الحرب على سورية والعدوان على شعبها وقيمها وحضورها ألواناً من وحشيات التطرف والتكفير والإرهاب والارتزاق والخيانة، وهذا ما لم يعد نكرانه ممكناً، لكن الذي لم نعرفه هو الوحشية الأسوأ التي من المستحيل أن يمتلك أي مجرم لها تسويغاً: إنها حرق المحاصيل الزراعية في الشمال والجنوب من قبل دولتين أطلسيتين “الولايات المتحدة وتركيا”، ما يجعل من حضارة الغرب وقيمه بربرية وهمجية تعدّ وصمة عار في تاريخ الإنسانية والمجتمع الدولي المعاصر.
هناك وثائق تؤكد كيف يحرق الأمريكان والأتراك ومرتزقتهما القمح والشعير، ثم الانتقال من الحرق إلى سرقة المحاصيل، والاستيلاء على الحقول المزروعة، وجني محاصيلها، وهذا نوع جديد من الوحشية لم نعهده من قبل، وتطور خطير لما بعد سرقة النفط والثروات الباطنية. وأخيراً “قانون قيصر” الذي يرقى إلى مستوى حرب الإبادة، وينطوي على أهداف إجرامية في “خنق” الشعب السوري، تماماً كما تفعل عنصرية ترامب وشرطته بالملوّنين الأمريكيين.
هذا ليس مجرّد استهداف لقيادة سياسية، أو لنظام سياسي؟! إنه لصوصية وقطع طرق وعار كبير، ولاسيما أن المحاصيل في تلك المناطق ليست قطاعاً عاماً، هي للكادحين من أبناء شعبنا.
إنها – كما قيل – موقف جبان ومأساة هائلة تلتصق بموقف الغرب تجاه الجرائم التي تقوم بها دولتان في حلف الناتو.
إذن، من الطبيعي أن يكون الغرب والناتو هكذا، وأن يجدا في العصابات الإرهابية: التكفيرية والصهيونية، وفي الرجعيتين: العربية والعثمانية ضالتهما… لكن مسألة حرق المحاصيل يجب التعامل معها تاريخياً وأممياً بشكل أقوى وأوسع، ولا سيما أن حرائق من نوع آخر تعمّ العالم.
ها هو العالم يحترق، ويلتهب، وإذا كنا في سورية نعرف السبب، ففي دول كبرى وكثيرة من العالم هناك من لا يعرف السبب، ولا العلاج، ولا حتى النتيجة.
في هذا السياق، لدينا مثالان شاهدان حاضران على ضياع العالم أمام حرائقه ولهيبه: الأول جائحة كورونا، والثاني انتفاضة قطاعات واسعة من الشعب الأمريكي ليس ضد إدارة ترامب، كما يخطئ كثير من الإعلاميين، بل ضد المنظومة القانونية والدستورية والتنفيذية التي تحكم عمل السياسات الأمريكية “الديمقراطية الليبرالية الغربية”، والتي أفضت إلى وصول مثل ترامب إلى رأس الهرم في الإدارة الأمريكية.
فالأول: يتجسد في استمرار ضياع العالم والعلم أمام كورونا فيروس كوفيد 2019، حيث يتصاعد عدد الضحايا بين وفيات وإصابات خطرة لما يزيد على ستة ملايين حتى تاريخه، ويتصاعد معه اضطراب الإنسان وضياعه بما يشبه الاستسلام للقضاء والقدر، للسحر والميثولوجيا، وخاصة القوة الأكبر في العالم التي وقفت، ولاتزال، مكتوفة الأيدي – بل أسوأ من ذلك- أمام وفيات يومياً بالآلاف، وإصابات بعشرات الآلاف.
الثاني: لم يكن موقف إدارة هذه القوة – الدولة الخائرة لا شك- مع كورونا بأفضل من موقفها من المشهد الاحتجاجي العنيف – الذي لم يسفر حتى اليوم إلا عن مطالب متواضعة ومحقة للمتظاهرين – جراء قتل سلطاتها الأمنية للمواطن الأمريكي جورج فلويد، والذي يذكرنا ببو عزيزي تونس.
ولعل أفضل اختزال في هذا السياق ما عبّر عنه منظّر الإدارة الأمريكية والمحافظين الجدد، فرنسيس فوكوياما – وغيره أيضاً – من تراجع رهيب عن الأسس الفلسفية لسياسات المحافظين الجدد التي بنيت على التنبؤات الوردية بعد سقوط جدار برلين عام 1989، وبالادعاء أن القيم الغربية والديمقراطية الليبرالية- الرأسمالية والامبريالية – تمثل نهاية التطور الأيديولوجي للبشرية بعد سقوط الشيوعية حيث ستتحقق رفاهية الشعوب والسلام العالمي؟!.
مع كورونا، وقبيل المشهد الاحتجاجي الأمريكي، يعلن فوكوياما، بل يصرح، ويصرخ أن: (الثقة بالحكومة هي العملة الأقوى للخروج من الأزمات، وهذا ما تفتقده أمريكا اليوم.. ويتساءل عن الشيء الذي تتحدّد معه مقاومة كورونا، وعن القدرة الفعّالة هنا للأنظمة الديكتاتورية القادرة على إخضاع شعوبها بالانضباط أو القهر مقابل الفشل الكارثي للأنظمة الديمقراطية).
ويرى فوكوياما أن النيوليبرالية – التي أسرف سابقاً في الإشادة بها وبالعولمة – انتهت كفكرة، بل ماتت أصلاً، ليعلن ضرورة العودة إلى الدور التدخلي للدولة من جديد؟!! لتقليص التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية بعد أن أقرّ بتراجع (هيبة الإدارة العامة في أمريكا بوصفها حقلاً علمياً بسبب: فقدان الثقة، والإفراط في المركزية.. وهذا لا يعني الاستسلام لصفارات إنذار الأنظمة الدكتاتورية)؟!.
هذا التراجع والتخبّط عند فوكوياما انعكس في تصريحات ترامب مؤخراً مع الاحتجاجات في عشرات المدن الأمريكية التي وصف مثيريها باليساريين والمتعصبين والمتطرفين، وبأن الحزب الشيوعي الصيني وأغلب الإعلام الأمريكي عازمون على تدمير القيم الغربية والديمقراطية في أمريكا. وهاهي الاحتجاجات الداعمة تمتد إلى دول أخرى في الغرب نفسه.
نعم: إن العالم الغربي اليوم ينعى المستند الفلسفي والأفق المعرفي والحضاري لسياساته واستراتيجياته، إنه “قيصر” ترامب، وحرائقه في سورية، وفي غيرها التي ستلهب أمريكا، وذيولها أيضاً، لهيباً لا يطفئه سقوط ترامب وحده، بل معه النهج الخطير والمستدام للإدارات الأمريكية المتعاقبة.