“ذهول و ارتعاش” تكشف خفايا التفوق الياباني
تحاكي رواية “ذهول و ارتعاش” للكاتبة أميلي نوتومب، وترجمة د. لبانة مشوح، الصادرة عن وزارة الثقافة – الهيئة العامة السورية للكتاب بصورة غير مباشرة المجتمع الياباني الحضاري، والمنظم من ظاهره إلا أنه يخفي الكثير من القسوة والتعاليم الصارمة، واعتمدت الكاتبة على السردية بصوتها بضمير المتكلم وتضمّنت مستويات من المشهدية الوصفية للمدينة الكبيرة عبْر النافذة التي طالما وصفتها الكاتبة بـ “الفتحة الزجاجية” لتوظّفها فيما بعد ضمن السرد الروائي بما سمته “القفز إلى المشهد” ويعني الهرب من اللحظة والنظر والتأمل بالمدينة، مع توقف الكاتبة عند الأشخاص الذين برعت بوصف ملامحهم وتعمقت بسبر سماتهم النفسية ومزاجيتهم الخاصة، بدأت دون المقدمات الروائية المتبعة بالحدث المباشر بعملها في شركة يوميموتو أكبر الشركات في العالم، حيث “كانت الأموال في هذه الشركة تتجاوز تصوّر البشر” في الثامن من كانون الثاني عام 1990.
تضعنا الكاتبة إزاء العوالم اليابانية لنتمعن بقراءة الأسماء “أوموشي- سابيتو- هانيدا- نتشي، إلى استحضار الأدباء مثل جونئيشيرو تيزاكي وجان راسين، إلا أن المتن الحكائي للرواية تركز بين الشخصيتين الأساسيتين الآنسة موري فوبوكي الرئيسة المباشرة في العمل للآنسة أميلي التي يصل طولها إلى مئة وثمانين سنتمتراً، وقد تغزلت بوصفها “هيفاء آسرة تسحرك بجمالها، ببشرتها البيضاء”. والغريب أن أميلي لم تتسلم مهام محددة وقبلت روح التحدي لتكتشف فيما بعد الكثير من المفاجآت ابتداءً من تقديم الشاي الذي أوضح بأن إتقانها اللغة اليابانية سبب لها مشكلة. التحدي منحها القوة: “وقّعتُ عقداً سنوياً، ترك العمل بهذه السرعة من شأنه أن يلحق بي الخزي والعار في نظرهم كما في نظري” ومضت الرواية مع تصاعد الصراع التدريجي بين فوبوكي التي وصلت إلى مرتبة رفيعة بالشركة بعد عشر سنوات من العمل الجاد فلم تسمح لأميلي أن تتجاوز التسلسل الإداري بأي عمل وتعاقبت على إقدامها على توزيع البريد دون علم رؤسائها، ما جعلها تتعرض لعقوبات صارمة.
الحدث الهام هو مشاركة أميلي السيد تنشي بإعداد تقرير عن التطور الموازي للاضطرابات الصحية والتقنية الجديدة لبلجيكا لإزالة الدسم من الزبدة، ما عرضهما لتوبيخ شديد ووصفهما “بالفردانيين” تبعتها مهمات حسابية دقيقة تعجيزية ضمن عملها بالمحاسبة. لتمرر الكاتبة من خلال احتدام الحوار بينهما جملة عن التفوق الياباني.
قوالب الجصّ
الحدث الآخر هو لقاء أميلي مع السيد هانيدا الذي وصفته بـ”إله يوميموتو” لتثير تساؤلات تكشف بذكاء سر التفوق الياباني الذي يخفي أساليب التعذيب المعنوي والازدراء والإهانات، حتى وصفتها الكاتبة “بجهنم” شركة يقودها رجل بهذا النبل الصارخ يفترض أن تكون جنة خالصة، مساحة تألق وعذوبة، ما هذا السر الغامض؟ أيعقل أن يكون الرب حاكماً على جهنم؟، وتعمد الكاتبة من خلال السرد إلى تحليل واقع المرأة اليابانية المقيد بقالب من الجص، فإذا بلغت الخامسة والعشرين ولم تتزوج فتشعر بالعار، و”إذا ضحكت فقدت الوقار والاحترام” إلى سلسلة من السلوكيات الاجتماعية المحرّمة عليها، أما الحب فلا يوجد أي أمل بالوقوع فيه، والتأكيد على العمل بإخلاص وجد لأن العمل سيتيح لها أن تبرز وتكبر حظوظها بالحصول على النقود وعلى زوج، وتتابع الكاتبة السرد عن واجبات المرأة اليابانية “من واجبك أن تنجبي الأطفال، وأن تعامليهم كآلهة حتى يبلغوا الثالثة، وهو السن الذي ستطردينهم من الجنة لتسجيلهم في الخدمة الإلزامية التي تستمر من الثالثة حتى الثامنة عشرة” ومن واقع المرأة اليابانية تعود إلى التوقف عند فوبوكي وتحليل واقعها ومراقبتها، ولاسيما تجاه رجل أعزب “لايلبث صوتها أن يصبح مداعباً إلى حدّ التأوه” وتعدى ذلك لتطلق الكاتبة “استعراض عرس الآنسة موري”.
المنعطف في الرواية هو القدرة على التحدي ومواجهة الازدراء الشديد وردّ الصفعة في الوقت المناسب إذ قبلت أميلي إهانة فوبوكي بتكليفها بتنظيف دورات المياه “على المرء أن يختار أهون الشرين، لقد وقعت عقداً لمدة عام كامل ينتهي في 7 كانون الثاني 1991 وكنّا في حزيران، سأتحمل.. سأفعل ما تفعله اليابانية لو كانت مكاني” وتأتي هذه الحادثة لتستكمل فوبوكي سلسلة تلذذها بتعذيبها، فتداعت إلى ذاكرة أميلي أحداث الفيلم الياباني “فوريو” ويعني “ميلاد مجيد، سيد لورانس” لتتوقف عند مشهد يأتي فيه الياباني ليتأمل ضحيته وهي نصف ميتة “اختار أن يعذبه بأن يدفن جسده في التراب فلا يدع منه بارزاً إلا الرأس المعرض لأشعة الشمس، كان هذا العبقري الفذ يقتل سجينه بثلاث طرق في آن واحد، بالعطش والجوع والاحتراق بأشعة الشمس”.
التعويض والعالم الخلفي
وتدخل الكاتبة بأساليب وسائل الدفاع عن النفس فتلجأ إلى التعويض بإعادة الوجود بما يطلق عليه العالم الخلفي، بالتفكير بالجنة المتخيّلة. الحدث الفاصل بالرواية هو تمرير الزمن وصولاً إلى زمن نهاية العقد وتقديم أميلي استقالتها، وتعرضها أيضاً لسخرية فوبوكي من مستقبلها لتطلق البطلة المفاجأة حينما عادت إلى أوروبا وبدأت بكتابة رواية عنوانها “صحة القاتل”، وشهد العالم اندلاع الحرب في العراق بعد الإنذار الأمريكي، “في العام 1992 رأت روايتي الأولى النور، في العام1993 استلمتُ رسالة من طوكيو، “آنسة أميلي.. تهانينا” موري فوبوكي، وما أسعد الكاتبة أنها حُررت باليابانية، وهذا يعني اعتراف فوبوكي بقدرات أميلي التي فازت ونجحت بالتحدي.
أميلي نوتومب
في مقدمة الرواية كتبت د. لبانة مشوّح أن الكاتبة أميلي نوتومب بلجيكية ناطقة باللغة الفرنسية ولدت في اليابان ووالدها كان سفيراً وأديباً في العديد من الدول، تأثرت بحضارة اليابان وأتقنت لغتها وفتنت بروعة طبيعتها، وترى د. لبانة مشوح بأن أسلوبها “فريد عُني بالتناص والتضاد يتأرجح بين العفوية والتكلف والسلاسة والتعقيد، وينم عن عشق واضح لتوليد كلمات وعبارات جديدة”.
ملده شويكاني