دمشق الحاضرة دائماً في “ترجمان الأشواق”
يشكّل المسلسل التلفزيوني “ترجمان الأشواق”، إخراج محمد عبد العزيز، وتأليف كل من بشار عباس ومحمد عبد العزيز، علامة فارقة في الدراما السورية، فهذا العمل الدرامي مشحون بالذاكرة والمكان والتاريخ حتى يكاد المشاهد يشم الرائحة لفرط التفاصيل، وعذوبة الموسيقا التصويرية، ورغم مرور الوقت على عرض هذا العمل، إلا أن الدراما التي عرضت هذا العام كانت كفيلة بالعودة إلى الأعمال القديمة، وإعادتها للمتعة، وإدراك أن الدراما كانت مرآة الواقع بكل تفاصيلها.
في أحد المشاهد يجسّد الفنان عباس النوري شخصية “نجيب” المترجم المرموق الذي اضطر للرجوع من منفاه بحثاً عن ابنته المفقودة؛ وكعادة الفاقد اليائس يقوم نجيب بالتفتيش عنها بشكل يكاد يكون عشوائياً، ليصل به الحال إلى البحث في مقتنيات ابنته في غرفة استأجرتها في بيت دمشقي أثناء دراستها علّه يصل إلى معلومة توصله إليها، فهو يجهل توجهاتها، وطريقة عيشها أثناء غيابه؛ وفي لحظات تعب، وبمشهد سريالي، يقوم نجيب بالرقص مع نفسه بمشهد يجمع الخوف من قادم، والحزن على ماض، ومرارة حاضر أليم، يرقص نجيب مرتدياً ذلك المعطف الكبير، فيتحرك بخطا أثقلتها وحشية الدنيا عليه، فيطلب من خيال ابنته الرقص معه على تلك الموسيقا مجهولة المعالم، وفي العودة إلى الواقع يجد نجيب بين الأقراص المدمجة والأوراق ما قد يخرجه من الغرفة إلى فضاء دمشق القديمة.
دمشق التي تسكننا ونسكنها، فيها ذاك السحر الذي وظّفه المخرج بطريقة ذكية ومتقنة ليلامس فينا كل مكامن الحب والوله والضياع والتعب، وهذا ما نجح العمل في إبرازه لدينا، لحظات بوحنا وحبنا، انكسارنا وأحلامنا، يمزجنا برائحة التراب العالق على أحجارها وياسمينها المدلل الغافي على كتف المنازل كرأس حبيبة تعبت من الرقص فأسندت صحن خدها على كتف الحبيب.
في مشهد ثان لا يقل وجعاً عن سابقه، وفي دكان عطور صغير، تحضر بطريقة بسيطة عجوز دمشقية تسأل البائع عن عطر الياسمين الأقل حدة، نجيب الذي يغادر الدكان مرافقاً بموسيقا تصويرية وكلمات ابنته عن صديقها العامل في محل العطور الذي كان من المفترض أن يوصل الأب إلى نتيجة ما، والحوار يكون: “قلي هاد عطر بدو يسافر، ما حسيتي فيه ريحة مطارات وجراجات وشناتي وشوارع غريبة وجوع بالمعدة؟ وشوق للأهل؟ قلتلو: ما عجبتني ريحتو.. فعلاً بعد فترة سمعت باع بيتو وسيارتو وسافر ع هولندا”، ترافق الموسيقا نجيب متجولاً في دمشق، وكم من شخص قرر الرحيل.
يكاد المسلسل أن يكون هدية غير مقصودة لاستعراض دفء دمشق وتفاصيلها، ولو كان لتلك المدينة أن ترد بحب على تلك الهدية لما ترددت، فالمسلسل سهل ممتنع يجسّد تفاصيل صغيرة وكبيرة يومية قد لا تخطر على بال أحد كالسيارات القديمة الجميلة، والصديق العجوز الذي يفتش عن صديق آخر في مكتبته بوضع كلتا يديه على زجاج المكتبة مسنداً رأسه عليها، ومستحضراً الكثير من التفاصيل التي تجعل منه قامة حقيقية في مجال الدراما.
جمان بركات