فلويد وسقوط الإمبراطورية
سنان حسن
في الوقت الذي تدخل فيه الاحتجاجات في الولايات المتحدة الأمريكية يومها العاشر، يبدو أن المشهد إلى مزيد من التصعيد والتعقيد وربما عدم القدرة على السيطرة، فحادثة مقتل المواطن الأمريكي جورج فلويد من أصول إفريقية، ليست إلا الفتيل الذي أدّى إلى التحرك والانتفاض وخروج الناس إلى الشوارع للتنديد بما جرى، فالمنتفضون ليسوا في أغلبيتهم من السود أو المهاجرين، كما يروّج الإعلام المؤيد لترامب، بل تشهد المظاهرات مشاركة الآلاف من البيض الناقمين على النظام القائم كله، فهل نحن أمام لحظة فارقة في التاريخ الأمريكي برمّته تكون البداية نحو الدخول في تغيير جذري في بنية النظام الحاكم، وبالتالي أفول الإمبراطورية الأمريكية، أم أن ما نشهده حتى الآن، وهذا محل شك، “مؤامرة” ضد الرئيس دونالد ترامب، كما يقول وأنصاره، لقلب أوراق الانتخابات الرئاسية المقبلة، بعد فشل سياساته في التصدي لوباء كورونا؟
مع وصول ترامب إلى البيت الأبيض، الذي جاء من خارج المجمع السياسي التقليدي كونه “رجل أعمال”، والصراع على أشدّه بين ما اصطلح على تسميته بالدولة العميقة والتيار الشعبوي العنصري الذي يمثله الرئيس، تفشّت حالة من الارتباك والتفكك في المشهد السياسي الأمريكي الداخلي وصلت إلى داخل إدارته، ودفعته إلى إجراء تغييرات غير مسبوقة في تاريخها، تمثّلت بوصول وزيري خارجية وثلاثة وزراء دفاع وأربعة مستشارين للأمن القومي وغيرهم من الناطقين باسم البيت الأبيض ووزراء عدل وجيش وبحرية ومستشارين، حيث تعدّدت الاستقالات، ولكن بالمجمل كان السبب الرئيس هو الاختلاف بين وجهات نظرهم والرئيس، فكل طرف يريد سحب البساط نحوه، سواء التيار العنصري الذي يدعم ترامب أو المجمع التقليدي من مخابرات ولوبيات وشركات أسلحة، وعليه فقد وجد الديمقراطيون فيما يجري فرصة لتوجيه ضربة لمنافسهم الأقوى وإسقاطه بالضربة القاضية، فعمدوا إلى دعم المحتجين الذين يمثلون قاعدة عريضة في الحزب “مهاجرين- لاتينيين – السود”، والهجوم على التصرفات التي يقوم بها ترامب وإدارته لمواجهة المنتفضين، فرأينا كيف قام المرشح الديمقراطي جو بايدن بالركوع على رجل واحدة تضامناً معهم. ولكن حتى هذا الأمر لم يعد مقنعاً لدى شريحة واسعة من الجمهور الأمريكي الذي وجد أنه لم يطرأ أي تغير يذكر على حياته ومعيشته مع وصول ديمقراطي أسود إلى السلطة “باراك أوباما”، إذن الدعم الديمقراطي ما هو إلا لتسعير النار المشتعلة بهدف ضيّق وهو هزيمة ترامب في الانتخابات الرئاسية، ولكن من يضمن أن يتوقف الأمر عند ذلك؟، ولعل ما قاله كيث إليسون عضو الكونغرس الديمقراطي السابق من مينيابوليس: “الحقيقة هي أنه لا أحد يعرف حقاً وعلى وجه الدقة من يقف وراء ما يحدث”، يؤكّد أن الكل يتهم الكل.
وعليه فإن السياق الطبيعي لما يجري اليوم على الساحة الأمريكية من تشظ كبير وخطير وتناحر وصدام، هو انهيار المنظومات التي تحكم المجتمع الأمريكي منذ مئات السنين، واعتماد قواعد جديدة تنظم العلاقات بين مكوناته المتناقضة والمتضادة، فحادثة فلويد، وإن كانت ليست الأولى التي تظهر العنصرية المقيتة التي يعيش المجتمع الأمريكي منذ تأسيسه، جاءت لتؤكّد حاجة المجتمع بالفعل للتغيير، وإلا فإن الأوضاع مرشحة إلى مزيد من التصعيد والعنف والعنصرية أيضاً، ولعل ما قالته ابنة جورج فلويد، جيانا فلويد (6 سنوات) في إحدى المظاهرات المنددة: “والدي غيّر العالم”، يختصر الكثير، وأن أمريكا كما تقول الحقائق الباردة وعلم الاجتماع السياسي بأن كل إمبراطورية لها طور ولادة وقوة وتطوّر ومن ثم أفول، هي اليوم في مرحلة تراجع كبير قد يؤدي إلى أفول شمس الإمبراطورية الأمريكية والسبب أثر فلويد.