من أسئلة السماء
لن أتحدث عن قراءات السومريين والبابليين للكواكب، ومحاولة فك ألغازها وتأمل المجموعات الشمسية في سبيل رسم صورة شبه حقيقية للحقائق الكونية وللنظام الشمسي، ولا عن تأليه الإغريق للكواكب ولاعن تعظيم العرب لها ككل… إلخ، ولكن ما سأتحدث به هو ما كنا عليه ونحن صغار كيف وقبل أن نخلد إلى النوم تدربنا على تأمل السماء تلك القبة العجيبة الغريبة المدهشة المرصعة بالقناديل والمصابيح الإلهية البهية والمطرزة باللؤلؤ والياقوت والزبرجد، ولا سيما في ليالي الصيف.. قبة لانملُّ ولا نتعب ونحن نراقب ونتابع ما يدور من وقائع ماتعة مثيرة من حلقات مسلسلها اليومي الذي يعرض على مدار الليل عبر شاشة الخلق العظيم.. قبةٌ من عالم آخر.. كون يطفح بالنجوم وبالمجرات وبالكواكب تومض، تسطع، تخفت، تنطفئ فيومض، يسطع، يرتجف قلبنا الصغير وتبدأ الأسئلة.
عالم من الضوء والنور.. عالم يشدنا من عيوننا المتوجسة القلقة، ومن قلوبنا النابضة بألق المحبة والنقاء، من عقولنا المتقدة المتوقدة الباحثة عن أجوبة أو بعض مفاتيح لفك رموز أسئلة بحجم ذاك السطوع الكوني المهيب، عوالم من نجوم ثنائية وثلاثية متدانية متلاصقة ومن تجمعات لنجوم وكأنها حقل قمح يانع أو عناقيد دالية تاقت لكرّامها أو كرمة لوز فاض زهراً وفراشات.. نجوم ومجرات ومذنبات ونيازك وكواكب ساحرة تتجاذب أحياناً وتتنافر أحياناً، يرحل أحدها فجأة كنيزك فنصرخ من دهشتنا وكأننا في حضرة لقطة من فلم رعب، فيتبعه نجم ثان وثالث، نتابع بقلق مسارهم ونخشى أن يتبعه نجم ويسقط فوق بيوتاتنا الواهنة التعبة.
قبّة وكأنها كتاب مفتوح أو شاشة عرض كبيرة ينتشر على جلّ مساحتها مناديل ضوئية باهرة قد هزتها يد عاشقة كلفة بأقمار من تحب لتهرّ منها كواكب ومجرات ويتبعه غبار كثيف من قناديل مازالت عالقة على كتف (سهيل)، وعلى ذكر سهيل كم علينا أن نعيد قراءة تلك الحكايات التي نسجتها الأخيلة الجمعية الحيوية للأجداد والتي مازلنا نتناولها بكثير من الدهشة والإعجاب والفتن، قصص عكست ما تمتعت به الذهنية الحكائية من حيوية استثنائية وكيف لا والسماء كانت المؤنس لوحشتهم ودليل سفرهم ومنجاتهم من كوارث طبيعية مناخية بعد أن استطاعوا امتلاك مفاتيح السماء وتهجي كل أبجدياتها استطاعوا أن يؤسسوا – بعد أن أنسنوا كل ما فيها – لواقع أكثر أمناً ولمستقبل يليق بحيوية أذهانهم وأفكارهم.
سهيل!! ومن منا لم يقرأ أو يسمع ما حيك حوله من قصص وحكايا بقيت ما بقي سهيل.. سهيل من فتيان اليمن صاحب النوء، وبحسب رأي علماء الفلك أن سهيلاً في عمر صغير لم يتجاوز بعد سبعة وعشرين مليون سنة، وبالتالي هو تحت العمر الافتراضي للنجوم قبل أن تموت وتشيخ وتنفجر وتتحول إلى ثقب أسود.. سهيل، بحسب الحكاية، هو زوج الجوزاء الذي اختلف معها ذات يوم فضربها وكسر مرفقها وفر تجاه الجنوب هارباً خوفاً من ثأر أهلها، ولحقت به أختاه عبر نهر المجرة، فعبرت إحداهما النهر وكانت قوية البنية واسمها الشعرى اليمانية أو الشعرى العبور لعبورها النهر وأما أخته الثانية فكانت ضعيفة ولم تقو على العبور والمتابعة فجلست عند ضفة النهر الشمالية تبكي أخويها حتى أغمضت عيناها فسميت بالشعرى الغموض أو الغميضاء، وما روي أيضاً عن ذاك الشاب اليماني (سهيل) أنه قتل نعشا، وكان لنعش سبع بنات حزنَّ عليه حزناً شديداً وأقسمن أن لا يدفن جثته إلا بعد أن يثأرن له فحملت أربع منهن جثمان أبيهن بينما سارت الثلاث يتعقبن سهيلاً وكانت إحداهن حاملاً، والأخرى برفقة طفل صغير، وثالثتهن عرجاء تمشي الهوينى، ومضت أزمنة وأزمنة وما زال سهيل هارباً وبنات نعش يتعقبنه.
بنات نعش عرفن بالدب الأكبر ويظهرن في الجزء الشمالي بينما سهيل الفار الهارب منهن مازال في الجزء الجنوبي ويبقى مختفياً لأشهر ولا يظهر قبل منتصف شهر آب فتستبشر الناس برؤيته بموسم الخير والأمطار وبدء انحسار الحر، وكما قلنا يظهر لأشهر قليلة ليعود ويختفي، وإلى اليوم لم يظفرن به بنات نعش ويثأرن لأبيهن الذي مازال محمولاً على أكتافهن، ومن المفارقة أيضاً أن بنات نعش المحزونات الضعيفات لم ينلن ذاك التعاطف المطلوب في المخيال الجمعي العربي لا بل على العكس نرى كما رأى غيرنا من قبل من الكتاب والقراء أيضاً أن سهيلاً هو البشرى إذ يستبشرون به خيراً ومن أسمائه المعروفة عند العرب (البشير اليماني – سهيل اليماني)، فكم نحتاج إلى إعادة قراءة تلك الحكايا من منطلق أنها تشكل مخزوناً معرفياً ثقافياً فكرياً تراثياً ثرّاً يضاف إلى تراثنا المادي المنتشر على جغرافيتنا، وكم علينا أن نقدم قراءات جديدة تحضر فيها دوافع وأسباب ومسببات كتابتها وآلية تناقلها وروايتها تاريخياً.
حكايات وقصص بملكات لغوية مدهشة استثنائية والسؤال الذي يُطرح هنا هل تمت كتابتها أو حتى وقوع أحداثها على أرض الواقع ومن ثم إسقاطها على حركة الكواكب والنجوم بعد إمعان وتأمل مديد للسماء وما عليها؟ أم بعد كل هذا الترقب والمراقبة لحركات كل مفردات السماء من نجوم وكواكب ومجرات و.. إلخ تم تقديم قراءة قصصية عبر مخيال فذ حيوي فعال أنتجت ما أنتجته؟.
عباس حيروقة