عبثية القدر
سلوى عباس
ترتسم الخيبات والأزمات التي نعيشها على وجوهنا عنواناً لحزن يحصرنا في إيقاع رتيب، وتجعلنا أسرى تداعيات لذاكرة موحشة سوداوية لا تختزن إلا صور الألم التي تظللنا بكآبتها، وتحرمنا من أي تفاؤل أو إحساس بالجمال، ويبقى الحزن هو المسيطر على أرواحنا. وفي لحظة من تعب اللهاث نركن إلى أرواحنا نتلمس وهن قلوبنا التي أضناها الركض ونناجي أنفسنا بحسرة أننا لا نستطيع الطيران، وندرك كم هو صعب أن نصل مبللين بعرقنا وآمالنا وتعذيب ضمائرنا، ثم نقضي وقتاً طويلاً من الخيبة قبل أن نلتقط نفسنا الأول ونكتشف وصولنا المتأخر، وأن الحلم الذي قضينا عمرنا نرسم ملامحه ونسعى إليه تبدد في طيات الوقت الذي بقي يجري مسرعاً، ليضعنا جميعاً في مواجهة أنفسنا، نبحث عن أجوبة لأسئلة أرهقت أرواحنا ورمتنا خلف عتبة الحياة.
****
وتتهادى أمامها النجوم سابحة في فلكها تنظر إليها بغيظ شديد ولكنه مكلل بابتسامة سخرية تنبع من الأعماق.. تنظر إلى الوجوه الصامتة فترى امتداد مأساتها شريطاً مليئاً بالحزن والتعاسة.. ترى نفسها تستحق كل ما حصل لها، فمنذ وعت هذه الحياة وهي تركض وراء الصعاب ويتراكم فشلها شيئاً فشيئاً، وهي لا تعير هذه الحياة اهتماماً بل تقابل المأساة بابتسامة وتنساها وتبدأ من جديد.. وتعود ثانية وهي لم تتغير.. تعلم أن المآسي تحفر أخاديد لا يمكن محوها.. لكن أخاديدها لا تؤلمها.. كيف ذلك؟
تساءلتْ: من أنا؟ ومن هي هذه الإنسانة المتمكنة مني.. إنني من لحم ودم، بل أضعف مخلوقات الطبيعة، كلمة صغيرة تهز مشاعري وتفتح أمام دمعي طرقاً لا تنضب، أهرب إلى الذكريات الماضية لكن أين الفرح فيها؟ّ بسمة صغيرة تهرب أمامي أريد أن ألتقطها وقلبي يتفجر حزناً، فأحزاني ألم لا ينتهي وجرح لا يزول وشمعة لا تنطفئ وقلب لا يستكين، فقد بدا كل شيء قبل اليوم أشد اتقاداً وأكثر ازدهاراً وكانت الشمس مشرقة أبداً حتى في عتمة الليل تقبع في ذاتي الكئيبة وتتسلل إلى نفسي تنشر فيها الأمل بغدٍ جميلٍ يحمل في طياته السعادة والتفاؤل..
****
إنها المحبة التي يحولها إيقاع الحياة السريع إلى كائن يكاد ينزوي جوعاً، إنها المشاعر التي تجعل للعيش مذاقاً لاذعاً وحميماً، والتي بدونها لن نستطيع الحياة، فالمشاعر المتبادلة خارج إطار المصالح والحاجات والمواقف الصغيرة في حياتنا كالكلمة الرقيقة واللمسة الحانية التي تعتبر شرياناً حقيقياً للحياة أخذت تتوارى بفعل الحرب والدمار وطغيان العلاقات المادية والتقادم، وكأن الزمن هو المقياس الحياتي الأصدق للعلاقة الإنسانية، فأيامنا بحاجة إلى زيادة مساحة الحب تجاه الآخرين وترجمتها إلى سلوكيات فاعلة واهتمام وجداني صادق، وفي قفرة العمر هذه مازلنا بحاجة إلى اتكاءات روحية ومشاعر متجذرة لا إلى أكوام ومستوردات مزيفة.. إننا بحاجة إلى إشراقة شمس حقيقية تنير عتمة أيامنا، ولنبقى كما تلك الذكريات التي صمدت في مكانها لسنوات تسع تقاوم الحرب والدمار يحصنها الحب فظلت متمسكة بالحياة في انتظار أصحابها الذين أرهق أرواحهم الغياب، ولم يستطع غبار الخراب الذي اعتلاها أن يمحو الأشواق والحنين من حناياها. فكم نحتاج لصباح يسند قلباً أوجعته الوحدة بسر الكلمة وابتسامة طفل تكرج من بين شفاهه الأحرف فراشات، فعندما يطاردك الألم تصدق بالبياض ليورق قلبك ودربك، فالصباحات مملة إذا لم يشرق قلبك فيها.. صباح التفاؤل نمطر به قلباً قمحي البوح لينهض من نومه شمساً.. صباح الحب يعمّد قلوبنا فنحن أقوياء نستيقظ كل صباح لنعيش الحياة ذاتها في المكان ذاته، مع الأشخاص ذاتهم.. وهذا بحد ذاته كفاح.