الصين باشرت تصحيح مسار التاريخ
د. مازن المغربي
يرى العديد من المراقبين أن جائحة الفيروس التاجي المستجد دشنت مرحلة تاريخية جديدة ستلعب الصين فيها الدور الرئيسي على مسرح الأحداث العالمية. وبعيداً عن استجابة الصين الناجحة للجائحة، وسرعة تعافي اقتصادها، ثمة أمر يحمل دلالة ويقدم دروساً للعالم. إن علاقات الصين بالعالم الغربي لم تكن أبداً سهلة، حيث تعرضت الصين لسلسلة من الممارسات العدوانية من قبل القوى الغربية. بدأ التوتر بين الصين وبريطانيا في القرن الثامن عشر نتيجة اختلال ميزان التبادل التجاري بين البلدين لصالح الصين، بسبب نمو الطلب البريطاني على الحرير الصيني، وغيره من المنتجات الصينية الفاخرة. كان رد شركة الهند الشرقية إجرامياً بكل معنى الكلمة، حيث قامت برعاية عملية زراعة الأفيون في البنغال، وبدأت عملية تجارية ضخمة بالاعتماد على مجموعة من المهربين الصينيين.
أدت عمليات تهريب الأفيون إلى الصين إلى تعديل اختلال الميزان التجاري بين البلدين، وإلى ارتفاع عدد مدمني الأفيون من الصينيين. وفي عام 1839 حاولت الحكومة الصينية التوصل إلى اتفاق مع بريطانيا للحد من عمليات تهريب الأفيون لكن دون طائل. فما كان من السلطات الصينية إلا خيار مصادرة مخزون الأفيون لدى المهربين، وبلغ حجم المصادرات قرابة 1210 أطنان.
ردت بريطانيا بإرسال أسطولها البحري وقصف الساحل الصيني، والاستيلاء على مواقع فيه معتمدة على تفوقها الناري وعلى ما اشتهر تحت اسم “دبلوماسية مدافع الأسطول”، وانتهت المواجهة في عام 1842 بتوقيع اتفاقية “نانكين” التي منحت الرعايا البريطانيين حصانة تامة، وفرضت على الصين فتح خمسة موانئ أمام التجار البريطانيين وفصل جزيرة هونغ كونغ عن الصين وإلحاقها بالامبراطورية البريطانية، لكن هذا لم يشبع أطماع بريطانيا التي شنت على الصين حرب أفيون ثانية استمرت من عام 1856 وحتى 1860.
وبعد ذلك مرت الصين بمرحلة اضطرابات نتيجة تصدع السلطة المركزية وانتشار أمراء الحرب، حيث سعى كل زعيم إقليمي إلى فرض سلطته على مناطق محددة من البلاد، ولم تكن التدخلات الغربية بعيدة عن تأجيج اشتعال المواجهات بين أمراء الحرب المتنافسين.
واندلعت في عام 1900 ثورة “الملاكمين” احتجاجاً على النفوذ الغربي وردت الدول الغربية بتشكيل تحالف من ثمانية بلدان هي روسيا، وبريطانيا، وإيطاليا، وألمانيا، وفرنسا، والولايات المتحدة، والنمسا وتمكنت قوات التحالف من دخول بكين وفرضت على الصين تعويضات هائلة. تلا ذلك فترة من القلاقل وانتشار أفكار ثورية وتوج الأمر بإعلان الجمهورية الصينية في الأول من كانون الثاني 1912، بعد ألفي عام من حكم سلالات ملكية متعددة.
كانت الصين طوال تلك الفترة مسرحاً لكل أنواع التدخلات الغربية، ولم تنج من تداعيات الحرب العالمية الأولى حين حاول الحلفاء المنتصرون إرضاء اليابان على حساب الصين خلال مؤتمر الصلح في فرساي 1919 الأمر الذي دفع الصين إلى رفض التوقيع على المعاهدة التي أقرها المؤتمرون. وخلال العقد الثاني من القرن العشرين تمكن الزعيم الصيني صن يات صن من الاستفادة من دعم الحكومة السوفيتية الفتية، الأمر الذي منح الحزب الشيوعي الصيني فرصة المشاركة في تحالف مع الحزب الوطني الذي انتقلت زعامته إثر موت صن يات صن إلى تشيانغ كاي شك. بعدها انقلب الحزب الوطني على الحزب الشيوعي وألحق به هزيمة شنيعة أدت إلى انكفائه إلى الريف الواسع. وبدأت في عام 1934 المسيرة الكبرى للسيطرة على المدن. وخلال الفترة ما بين 1931 و1945 خضعت مناطق واسعة من الصين لاحتلال ياباني وتحولت المواجهة بين الصينيين واليابانيين إلى جزء من الحرب العالمية الثانية.
انتهت المواجهة بين الحزب الشيوعي وتشيانغ كاي شك بانتصار الشيوعيين عام 1949 وسيطرتهم على كامل البر الصيني وأعلنوا قيام جمهورية الصين الشعبية، في حين لجأ تشيانغ كاي شك إلى جزيرة فورموزا (تايوان) وأعلن قيام دولة جمهورية الصين. كان تعداد سكان البر الصيني عام 1949 يقارب خمسمئة وخمسين مليون نسمة، ووصلت مساحته إلى تسعة ملايين وخمسمئة ألف كيلو متر مربع في حين لا تتجاوز مساحة تايوان 36 ألف كيلو متر مربع، لكن هذا لم يردع الولايات المتحدة وحلفاءها عن التمسك بالعلاقات مع جمهورية الصين ومنحها مقعداً دائماً في الأمم المتحدة طول ثلاثة عقود من السنين. اعتمدت الصين على الدعم التقني السوفييتي. وتمكنت الصين تحت قيادة ماو من تجاوز مرحلة الثورة الثقافية التي أضرت باقتصاد البلاد، وكادت تفضي إلى حرب أهلية. ثم تلا ذلك مرحلة من إعادة فرض سلطة الدولة وهيبتها وتمكنت الصين من استعادة توازنها والتعافي من تداعيات الثورة الثقافية. وفي ظل أجواء الحرب الباردة تولد لدى واشنطن دوافع لمد اليد إلى الصين وتوج ذلك بزيارة الرئيس ريتشارد نيكسون إلى الصين عام 1972 بعد تخلي الولايات المتحدة عن حليفها القديم في جمهورية الصين في جزيرة تايوان. وتمكنت بكين من نيل مقعد دائم في مجلس الأمن، الأمر الذي منح الدبلوماسية الصينية هامشاً واسعاً للمناورة. وبعد وفاة ماو عام 1976 مرت الصين بمرحلة صعبة من الصراع على السلطة تم حسمها عام 1978 بتولي دنغ شياو بنغ رئاسة البلاد وبدأ عملية إصلاح هيكلية شاملة. كان بنغ هو مهندس نهضة الصين وتنبأ عام توليه السلطة بأن بلاده ستحتاج إلى خمسين سنة لتتحول إلى دولة حديثة متطورة. وتم خلال فترة حكمه التي استمرت أربعة عشر سنة وضع أسس تحويل الصين إلى اقتصاد السوق الرأسمالي في مفارقة تاريخية، حيث قاد الحزب الشيوعي أكبر عملية تحول رأسمالية في تاريخ العالم. ونحن نشهد الآن دلائل تحقق نبوءة مؤسس نهضة الصين. لكن بكين لم تكتف بكل هذه الإنجازات وأصرت على تصحيح جرائم الدول الغربية من خلال إعادة بسط سلطتها على هونغ كونغ، لأن الصين لم تعترف أبداً بعملية فصل هذه المنطقة لكنها فضلت الانتظار وبناء إقليم يكون قاعدة مناسبة لإعادة توحيد الصين التاريخية، الأمر الذي ولد موجة غضب في وسائل الإعلام الغربية التي هللت في العام الماضي لمظاهرات شهدتها هونغ كونغ التي تتمتع بنظام إداري خاص جعل منها جنة للشركات الغربية، حيث يمكن لأي شركة فتح مقر في المدينة دون المرور بالقيود الإدارية الصارمة القائمة في البر الصيني، كما يمكن الدخول إلى المدينة دون الحاجة إلى تأشيرة دخول صينية. وقد أقر مجلس نواب الشعب الصيني قبل أيام قراراً حول تنفيذ الإجراءات القانونية في منطقة هونغ كونغ بعد دراسته من لجان مختصة وجدت أنه يتوافق مع الدستور الصيني ومع النظام الإداري الخاص بمنطقة هونغ كونغ.
كما أن الصين لم تعترف أبداً بانفصال تايوان، وأقرت عام 2005 قانون مناهضة انفصال الجزيرة التي هي جزء من الدولة الصينية. لكن حكومة تايوان رفضت عرض بكين تطبيق نظام يمنح الجزيرة استقلالاً داخلياً واسعاً، حيث أصرت حكومة تايوان على المضي في خطوات إعلان الاستقلال. لكن، وقبل أيام قليلة، أعلن أحد كبار القادة في الجيش الصيني أن بلاده لا تستبعد الخيار العسكري لمنع استقلال تايوان.
إن العالم قد تغير، وما من عاقل يمكن أن يعتقد أن هناك دولة في العالم ستخاطر بعلاقاتها مع الصين إرضاء لهونغ كونغ أو تايوان، وفي حال اندلاع مواجهة عسكرية ستكون الموازين العسكرية لصالح بكين التي ستستفيد من العامل الجغرافي ومن تفوقها العسكري. ويبدو أن السنوات القادمة سترينا كيف ستتمكن الصين من تصحيح مسار التاريخ، وإنهاء الأوضاع الانفصالية التي فرضتها القوى الغربية، وفي هذا درس يمكن لنا الاستفادة منه من خلال بناء إقليم يكون قاعدة لإعادة بسط سلطة الدولة على كامل ترابها عاجلاً أم آجلاً من خلال عملية إعادة إعمار تنعكس بشكل إيجابي على حياة المواطنين وتدفع نحو تعزيز إعادة بناء الوحدة الوطنية.