الذكرى العشرون لوفاة الرئيس حافظ الأسد
الرئيس علي ناصر محمد
شكلت وفاة القائد العربي الكبير حافظ الأسد خسارة كبيرة ليس لسورية وشعبها فقط، بل للشعوب العربية قاطبة في وقت من أصعب الأوقات في تاريخ الوطن العربي، إذ خسرتْ برحيله زعيماً عنيداً، صلباً، رابط الجأش، لا يأبه للضغوط، صاحب رؤية تاريخية مدعمة بالثقة في النفس ومؤمنة بتحقيق هدفها في النهاية، رجل فكر وأيديولوجيا قومية في وقت واحد.
كان – رحمه الله – آخر القادة العرب الذين شكلوا التاريخ الحديث للمنطقة. غير أن أثره كان أقوى من الجميع فرؤياه الثاقبة ومواقفه المبدئية وموقفه المقاوم للاحتلال، ورفضه العنيد لتقديم تنازلات فيما يتعلق بالأرض العربية المحتلة، وتمسكه بالحقوق المشروعة للشعب العربي الفلسطيني، حوّلت سورية إلى قوة سياسية إقليمية. ولهذا سيذكر التاريخ للرئيس الراحل أنه لم يحوّل سورية إلى عملاق سياسي له حضوره ونفوذه على امتداد الوطن العربي فحسب، بل سيذكر له أيضاً ودائماً انه صمد واستمر في الصمود وواجه كل الضغوطات الساعية للانتقاص من الحق العربي، وأنه ظل متمسكا بتصميمه ألا يوقع سوى على سلام شامل وعادل ومشرف.
كما سيذكر التاريخ حافظ الأسد كرجل أعطى سورية الاستقرار واستمرارية الحكم، وأكد أهمية بلاده في المنطقة، واستطاع مدَّ خيمة الأمن عليها طوال ثلاثين عاماً عقب سنوات من الانقلابات المتلاحقة والقلاقل وعدم الاستقرار السياسي. إنه باعتراف الجميع أول زعيم عربي سوري يذهب بهذا القطر العربي إلى مركز الفاعلية الذي لا تستطيع قوة دولية أو إقليمية تجاهل دوره وتأثيره.
لقد طبع الراحل سياسات المشرق العربي، وعموم المنطقة العربية، ببصمات قوية لمواقفه وأفكاره وممارساته على مدى ما يزيد على ثلاثة عقود من الزمن.
ولا يخفى على أحد أن تلك الفترة من تاريخ سورية شهدت خطوات كُبرى على صعيد بناء سورية الحديثة القوية، وهو ما لم يكن متوافراً ولا متحققاً قبله في السنوات الأربع والعشرين التي سبقت الحركة التصحيحية، لكثرة الانقلابات والتغييرات التي أحدثت حالة من عدم الاستقرار منعت سورية وشعبها حتى من التقاط الأنفاس.
فحوّل المكانة الاستراتيجية لسورية، التي كانت هدفاً للصراعات الإقليمية والدولية يدور الصراع عليها، إلى شوكة الميزان في التوازنات الإقليمية، وأصبح أحد اللاعبين السياسيين الكبار في المنطقة.
وقد تمكن من تحقيق ذلك بما عرف عنه من حنكة واقتدار في مضمار إدارة السياسة والتخطيط الاستراتيجي، والتصريف التكتيكي الفذ للمواقف، والتحري الدقيق للخيارات البرنامجية، ولم يكن ذلك يرجع إلى موقع سورية الجغرافي والسياسي في قلب مصهر التناقضات كما يفترض فحسب، بل يعود في كثير منه، وبشهادة المحللين السياسيين، إلى جلده ودهائه وكفاءته النادرة في تطويع الممتنع، وفي استثمار تداعيات التناقض في بناء رأسمال القوة. وقد تمتع الراحل العظيم، حتى باعتراف خصومه، بعقل استراتيجي، وبالرغم من التموجات التي كان بعضها عارماً فقد حقق لسورية استقراراً وثباتاً، ولعب دوره في عملية السلام بحذق سياسي نادر، فنال عن جدارة لقب الرقم الصعب، ولذلك فان رحيل حافظ الأسد ترك فراغاً سياسياً في منطقة الشرق الأوسط كأحد اللاعبين الكبار باعتباره رجل الاستراتيجية الواقعية بشهادة أعدائه قبل أصدقائه.
كان الرئيس الراحل قارئاً جيداً للتاريخ بشكل عام، وللتاريخ العربي والإسلامي بشكل خاص. قراءة الأحداث ووقائع الماضي، بمعنى الاستلهام من وقائعه وأحداثه العظام، وخرج بالكثير من العبر والدروس. وكان يدرك دوره ودور بلاده في التاريخ العربي والإسلامي حيث أن سورية صنعت عقوداً طويلة من هذا التاريخ.. وكان يدرك أن سورية كانت ومازالت بموقعها الاستراتيجي وبتراثها القومي وتاريخها السياسي العربي، من أهم الأقطار العربية في مواجهة المشروع الصهيوني لإقامة إسرائيل في قلب الوطن العربي، في فلسطين، ثم لمواجهة تمدده خارج فلسطين، بعد هزيمة حزيران 1967؛ ومن ثم كانت سورية على الدوام منذ نجاح هذا المشروع – بشقيه- وماتزال هدفاً للتآمر الرئيسي والتخريب السياسي الداخلي والمخططات الصهيونية عموماً. ولذلك فان الصمود الذي أبداه الرئيس الراحل حافظ الأسد حتى اللحظة الأخيرة من حياته في مواجهة المطامع الإسرائيلية، وإصراره على المطالبة باستعادة كل الأراضي المحتلة في الجولان وباقي الأراضي العربية المحتلة، نابع من موقف قومي يعتمد على التمسك بالحقوق الشرعية الثابتة، وعلى الشرعية الدولية التي نادت بذلك. لقد رحل الأسد وهو مجلل بالفخار، ومعه كل العرب وسورية بالطبع، لأنه رفض التوقيع على سلام ناقص، سلام غير عادل، رفض أن يركع للضغوطات أو ينحني للرياح، رحل بعد أن قدمت سورية بقيادته كل ما في وسعها لتحرير جنوب لبنان الذي أسعده ولاشك في أيامه الأخيرة، ولذا ستبقى ذكراه في الوجدان العربي كمثل وسنديانه قوية صلبة لم تقتلعها رياح الصراعات، ولا العواصف الإقليمية والدولية.
إن رجلاً في مكانة حافظ الأسد يترك تأثيراً لا يُنسى على التاريخ، وعلى السياسة، وعلى من أتاح لهم القدر أن يلتقوا به. وقد كنت من الذين جمعهم القدر مع الراحل الكبير؛ وتعود معرفتي الشخصية بهذا القائد الفذ إلى نيسان عام 1970، حين كان وزيراً للدفاع، وقبيل الحركة التصحيحية في تشرين من العام نفسه، وكنت قادماً من عدن للقائه بوصفي وزيراً للدفاع لليمن الديمقراطية.
كان هذا أول لقاء لي بحافظ الأسد، وأذكر أنه ترك في نفسي انطباعات رائعة منذ ذلك اللقاء. إذ كان الراحل العظيم يتمتع بصفات نادراً ما يتمتع بها القادة الذين يتحملون أعباء ومسؤوليات كتلك التي تحمّلها حافظ الأسد. ورغم أن حافظ الأسد بوصفه وزيراً للدفاع وقائداً لسلاح الطيران في مرحلة كانت سورية كلها لاتزال مهمومة بإزالة آثار نكسة حزيران وإعادة بناء قواتها المسلحة، فقد منحني من الوقت وأنصت إليّ باهتمام شديد، كانت تلك ميزة يتمتع بها القائد الراحل. وكان على شيء من الرقة واللطف، مع ذاكرة مذهلة وقدرة على التركيز الذهني قل مثيلها.
كان هادئ القسمات، خافت الصوت مع وضوح النبرة، وكان كريماً أيضاً في المساعدات التي طلبتها لبلادي، لم يتردد رغم الظرف الصعب الذي تمر به سورية والذي كنت أعرفه، بل لبى كل ما طلبناه لتعزيز القدرة العسكرية لقواتنا المسلحة التي كانت في طور النشأة والتكوين بعد أن نال اليمن الجنوبي استقلاله الوطني من الاستعمار البريطاني في تشرين الثاني 1967. كانت معركته قومية في الأساس وكان هذا المنطلق من ثوابته، ولذا لعب الخبراء السوريون الذين رافقوني على الطائرة نفسها التي أعادتني إلى عدن دوراً هاماً في إنشاء الكلية العسكرية في عدن كأول أكاديمية عسكرية تدرس العلوم الحديثة، كما قدموا عوناً لا يقدر بثمن في إعادة بناء القوات المسلحة ووضع القوانين والتشريعات المتعلقة بوزارة الدفاع وتنظيم مختلف الأسلحة. كما أرسل عدداً من الطيارين والمدربين على الطائرات الروسية ميغ 17 قبل عودة طيارينا من التدريب في الاتحاد السوفياتي، وأرسل أيضاً بعثة طبية لإدارة المستشفيات العسكرية.
بعد ذلك، توالت اتصالاتي بالراحل، وتكررت لقاءاتي به، وكنت أحرص على الدوام خلال زياراتي إلى الخارج، خاصة بعد ان أصبحت رئيساً للوزراء ورئيساً لبلادي فيما بعد، على ان تكون دمشق محطة مهمة فيها، ولقاء الرئيس الأسد في الصدارة دائماً. وكان – رحمه الله – مغرماً بالتاريخ وقارئاً جيداً له، وبقدر ما كان يتحدث عن موقف سورية ورؤيتها، فانه كان يبدي حرصاً شديداً على التعرف على تطورات الأوضاع في اليمن والخليج العربي، وحرصاً شديداً على استقرار الأوضاع في هذه المنطقة الحيوية، وكان يعرف الكثير من أوضاعها ويتابعها بدقة، ويرى في وحدة اليمن وعلاقات حسن الجوار والتعاون مع محيطها في الجزيرة والخليج خير دعم لسورية ولدول المواجهة في صراعها القومي مع العدو الإسرائيلي.
وقد تعددت لقاءاتي بالرئيس الراحل بعد ذلك في العديد من المناسبات والمنعطفات الحاسمة، سواء بالنسبة لسورية أو بالنسبة لليمن أو لي شخصياً. وفي كل المواقف، وفي أصعب الظروف، فان الرئيس الأسد أبدى على الدوام دعماً وتأييدا لليمن ولقضاياه وعلى رأسها الوحدة اليمنية، وأبدى معي تعاطفاً لا حدود له في الأوقات الصعبة والمحن الشديدة، وكان هذا نوعاً من الوفاء النادر للأصدقاء قلما نجد له مثيلاً في هذا الزمن الصعب.
ورغم أنني زرت العديد من عواصم العالم، والتقيت العديد من زعمائه عربا وأجانب، فان دمشق والرئيس الأسد يظلان في قلبي ووجداني وفكري إلى درجة أنني اخترت دمشق مقراً لإقامتي وأسرتي بعد مغادرتي السلطة واليمن، ومقرا للمركز العربي للدراسات الاستراتيجية الذي أسسته بدعمه ومساندته، وعقدنا المؤتمر التأسيسي له في دمشق تحت رعايته الكريمة في نيسان عام 1995.
لقد ودَعت سورية منذ عشرين عاماً باني نهضتها الحديثة، الرئيس حافظ الأسد، بأكثر ما يمكن لبلد أن يودع به قائده، بالوفاء والعرفان.. فعلت ما هو أبعد، فقررت تكريس نهجه والاستمرار على خطاه، من خلال إجماعها على السيد الرئيس بشار الأسد.
عشرون عاماً مرت على غياب الرئيس حافظ الأسد، لم يعد المشهد كما كان في حياته، جرت أمور كثيرة في سورية واليمن وليبيا ولبنان وفلسطين، وفي أماكن أخرى من الوطن العربي والعالم، لكن سورية ظلت في قلب الأحداث كما كانت، ولازال الصراع يدورعليها وحولها وهي دائماً عصية على الكسر، وهذا قدرها باعتبارها صانعة السلام والحرب، فلا حرب بدونها ولاسلام أيضاً بدونها. ووسط هذه العواصف يكون غيابه مؤلماً..