الروحانية في عمارة المستقبل
كتب الناقد والأديب الراحل يوسف سامي اليوسف عن دمشق وآثارها في سفر تدوينه لمذكراته بلغة قلما تتوفر عند أي ناقد فني أو آثاري أو معماري، فقد كتب عن المدينة القصيدة والمدينة الرواية التاريخية والروحانية.. المدينة التي لها في السماء الكثير، يتجول في معالمها مثل قارئ عميق الحب لجوانب هذه المدينة عاشها الكاتب طفلاً لاجئاً من فلسطين إلى بعلبك واستقر في مخيم اليرموك فجاءت الكتابة عن دمشق القديمة بليغة بحمولاتها الوجدانية بمثابة خط الدفاع عن الشرق وعن الخصوبة والحضارة وعن شخصية الأمة التي أنتجتها، باعتبار أن هذه الشخصية هي الكاشف الأول لمحتويات المدينة التي يجب الحفاظ عليها فكل بيت وزاوية وجدار ومئذنة هي شواهد أهلها ولا تقل أهمية عن أي متحف: “لا غلو إذا ما زعمت بأن الشطر القديم من مدينة دمشق هو وجوباً وحكماً متحف قائم بحد ذاته ويجب الحفاظ عليه كما يحافظ المرء على مقلة عينه، وربما حالفني السداد إذا ما زعمت بأن هذه المنجزات المعمارية الجليلة قد أنجزتها المسغبة الروحية التي تجتاح باطن الإنسان على الدوام، ولكن دون أن تجد لها أيما إشباع قط، وفي مذهبي أن الريازة، قبل أي فن آخر هي التجلي الأكبر لشخصية الأمة التي تنتجها أو تخصها وحدها. فشخصية أمة معينة في زمن معين هي الكاشف الأول لمحتوياتها في ذلك الزمن حصراً. وما هو أهم من هذا فعلاً أن الريازة، أو منجزاتها الجلية الماثلة للعيان، تحتوي على أسرار النفس ومكنوناتها الصامتة، وذلك لأن تلك المنجزات هي التعبير الخارجي المرئي عن تلك الأسرار والمدخرات النفسية المستورة. كما أن تأمل المنجزات المعمارية الكبرى وتذهنها بواسطة العقل الاستباري الفعال هو جهد قد يفضي بنا إلى فهم للنفس ربما عجزت عن توفيره لنا أي منجزات حضارية أخرى، بما في ذلك الشعر والموسيقا. وما هذا بصدفة قط، فالمنجزات المعمارية شيء أعطي للنظر، أو للعيان البصري والعيان الاستبصاري في آن واحد، وما من ريب في أن العين أقوى الحواس وأشرفها وأعلاها رتبة ومقاماً. كما أن الاستبصار الحدسي المتفطن هو أرقى نشاطات الفهم وأنفس نزعات الروح السابر والنازح صوب الغور العميق الذي لا يقوى على البلوغ إليه سوى الأقوياء.
أن يكون لنا ماضٍ عريق طافح بالمبتكرات العظيمة، ماضٍ نعتد به ونعتز، هو أمر من شأنه أن ينعش الذات ويبعث فيها الأمل والرجاء. وربما جاز الزعم بأن هذه الهوية العامة هي موضوع التاريخ كله، أو هي قلبه المؤلف لأهم ما فيه من العناصر الحية الكبيرة. فلكم هو شيء عظيم أننا ننتمي إلى تاريخ عمره أكثر من عشرة آلاف سنة، وأن لنا تراثاً أصيلاً قديماً يتحدر من عصور الصيد والكهوف وبدايات الزراعة وتدجين الحيوان.
يقيناً، إن منطقتنا هي التي اخترعت الإنسان، أجل أنسنت الوحش الشبيه بالكائن البشري في الطور السابق على التاريخ، واستدرجته رويداً رويداً صوب ماهيته الإنسانية بواسطة الدين والفنون الجميلة العاملة على صقل النفس وتزكيتها وتخليصها من حيوانيتها وشراستها وخشونة ملمسها. أما هذه الحضارة المادية الراهنة الشديدة السعار، فإنها تعمل بالاتجاه المعاكس لاتجاه حضارتنا القديمة بالضبط، لأنها تعود بالإنسان القهقرى صوب حيوانيته الأولى التي كان عليها قبل بداية التاريخ والحضارات العالية.
ولعمري، إن الغربيين لم يستوعبوا لباب الشرق، أعني ميله إلى العمل في الداخل قبل الخارج، أو في الذات قبل الموضوع. فلئن كانوا يمثلون الحركة الموارة الدائبة التي لا تهجع ولا تركد، كأنهم البراكين المتفورة بالحمم والنيران، فإن الشرق هادئ صبور وشديد القدرة على ممارسة التأني والتربص والانتظار.
ويتفاءل الراحل يوسف سامي اليوسف بهذا الإرث العظيم الذي منح الحضارة صفتها الإنسانية بأن يستطيع أبناء هذه البلاد في المستقبل من إعادة الاعتبار وإنجاز ثورتهم الروحية التي من شأنها أن تغير من معالم هذا الكوكب وتجعله أفضل مما هو عليه الآن، وربما تستطيع هذه التحولات المرتقبة أن تحرر الإنسانية من بؤسها الذي صنعته الصناعة المفرطة في نزوعها صوب عبادة المادة واستبعدت روح الإنسانية وأوغلت في الجشع والعدوان، ما أفقد الأرض جمالها وغيّب العدالة وقيم الخير والحق والجمال.
أكسم طلاع