المستهلك والمنتج بين يدي التاجر!
الغريب أن كثيرين مازالوا يتوهمون، ويوهمون، بأن الأزمة الاقتصادية التي نعيشها بخيوطها الممدودة من سنوات وبحبالها المشدودة منذ أشهر، هي أزمة مستهلك، وتحديداً ما يتعلق بضعف انضباط أسعار المواد على تعدّدها وتنوعها – ما هو منها منتج محلياً أو مستورد -، ويصبّون جام غضبهم على وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك، اعتقاداً منهم أن الحلّ بيدها من خلال عشرات مراقبي الأسعار ومئات مراكز المؤسّسة السورية للتجارة في كل محافظة، أو من خلال الأسواق الشعبية المطروحة والمعمول بها حديثاً، وغاب – ولازال غائباً – عن ذهن هؤلاء أن الأزمة الكبرى هي أزمة المنتج بالدرجة الأولى، وأيضاً أزمة المستورد بالدرجة الثانية، فكلّما تحسنت كمية ونوعية الإنتاج المحلي، كلما ازدادت وفرة المواد في السوق وبأسعار أقل، وكلما كانت المواد المستوردة محصورة بالمواد الضرورية فقط، وذات نوعية جيدة ولا تماثل وتزاحم المواد المنتجة محلياً، وبأسعار ذات أرباح مشروعة، كلما اندفع المستهلك باتجاه اقتناء حاجته الماسة منها، بعيداً عن استهلاك “الترفي” منها، والذي يملأ السوق الداخلية حالياً بأسعار عالية جداً، ومعظمه مستورد بدولار المصرف المركزي، والأخطر ما هو مستورد منها بدولار السوق السوداء الناجم عن المضاربات اليومية، وما لم يتمّ معالجة الأزمتين الأخيرتين فلا معالجة للأزمة “المطبل” بها، لأن الأزمات الثلاث مترابطة مع بعضها.
حقيقة الأمر أن جهاز حماية المستهلك عاجز عن ضبط السوق فعلاً، أكثر مما هو مقصِّر اتهاماً، فالفيض الكبير من المواد كمية ونوعاً، عند كل تاجر بل عند عشرات آلاف التجار – بالمتوسط في كل محافظة – لا يمكَّن أعداداً قليلة من عناصر حماية المستهلك – يحوم عددها بالمتوسط حول المئة في كل محافظة – من ضبط الأسعار، خاصة وأن الحكومة عجزت عن فرض نظام الفوترة الذي روّجت له أكثر من مرة وبإعلانات طرقية وإعلامية كلّفت الملايين بين فترة وأخرى، وأيضاً عجزت لجان التسعير في المحافظات عن فرض الأسعار التي كانت تضعها لبعض المواد، ومن ثم اقتصر دورها على تسعير مواد محدودة، كالفروج والبيض واللحم والخضار، وكثيراً ما كان سعر السوق أقل أو أكثر، بين زمان ومكان، عدا عن أن آلاف المنتجات غير خاضعة للجان التسعير، والمنتج والتاجر هما اللذان يحدّدان السعر، وغالباً ما يكون الفارق كبيراً بين سعريهما لصالح التاجر (جملة أو مفرق). والملفت للانتباه أن لجان التسعير المركزية عجزت عن فرض الكثير من أسعارها حتى للمواد الأساسية، بما في ذلك الخبز والمحروقات، فواقع السوق لخبز المخابز الخاصة – سعراً ووزناً – يتجاوز السعر الرسمي بمقدارٍ يقارب الضعف منذ سنوات، وهذا التجاوز قائم جزئياً لكثير من المخابز العامة، وخاصة تلك التي تحمل اسم المخابز الاحتياطية، أما تجاوز المحروقات فمحصور بضعف تقيّد أغلب محطات الوقود بالكيل الصحيح أو الخلو من الخلط، بما في ذلك المحطات الحكومية، حتى أن الطابع المالي يُباع في السوق بأعلى من سعره في أغلب الأمكنة، كل ذلك ناجم عن ضعف الحكمة عند الفريق الاقتصادي مجتمعاً ومنفرداً، إذ لم يكن هذا الانفلات السعري قائماً قبل عقود كما هو قائم الآن!!.
واقع الحال أثبت أن التاجر هو سيد الحلبة، فهو الذي يسوَّق مستلزمات المنتج (زراعي – صناعي – حرفي – خدمي) وحاجات المستهلك، وربحه مضمون من المنتج والمستهلك معاً وبشكل تصاعدي، بدليل أن آلاف التّجار حققوا ملايين الأرباح، والتهافت على التجارة في ازدياد، إلا أن مئات المزارعين والصناعيين والحرفيين خسروا الملايين وخرجوا من الإنتاج، ونسبة التنامي السنوي لأعداد العاملين في التجارة يكاد يفوق تنامي العاملين في باقي القطاعات!!.
فإن عجزت وزارة التجارة الداخلية عن مهمتها في حماية المستهلك المدرجة ضمن مهامها، فالعجز الأكبر قائم عند الوزارات الأخرى (وزارة الصناعة وغرف الصناعة واتحاد الحرفيين – وزارة الزراعة وغرف الزراعة واتحاد الفلاحين، و..) في حماية المنتج الذي يشكو من معاناته في تذبذب توفير وتسعير الكثير من مستلزماته، وغالباً ما يشكو ذلك بخصوص منتجاته، فأين هذه الجهات من اهتمامها في ضمان تسويق مستلزمات ومنتجات المنتجين في قطاعها، بما يحقق عائدية كافية للمنتج تضمن استمراره وتحفَّز إقبال منتجين جدد، فالطامة الكبرى القادمة لن تكون بازدياد الأسعار بالوتيرة الحالية، بل بوتيرة أعلى بكثير، نظراً لندرة توفر المواد بسبب تتالي توقف الكثير من المنتجين عن الإنتاج لعجزهم في تأمين مستلزماتهم بما يوازي تحقيق ريع تصريف منتجاتهم. إن ازدياد أسعار اللحوم والفروج والألبان والبيض يعود لتناقص منتجي هذه المواد، وقبل عقود كان لدى كل حائز زراعي أعداد من أنواع الماشية، وحالياً نسبة كبيرة من الحائزين لا يملكون أي نوع منها، ولم يعد بمقدورهم تملكها، فالبقرة بثلاثة ملايين ليرة، والمصيبة الكبرى لدى من تموت بقرته، نتيجة العلف أو العلاج البيطري المغشوشين، وقبل أيام وزع مربي دواجن الصوص الصغير الذي في مدجنته مجاناً للراغبين، نظراً لعجزه عن تأمين العلف اللازم، ومن المؤكد أن من أخذوه أعجز عن تربيته وسيموت الصوص، وبعض منتجي الصوص توقفوا جزئياً عن إنتاجه لقلة طالبيه، وبعض المنتجين الحرفيين (منجور خشبي – منجور المنيوم – منجور حديد) توقفوا جزئياً أو ربما كلياً، نظراً لعدم وجود طلب بسبب الارتفاع الكبير للأسعار، وستكون الحال نفسها لمنتجين آخرين، لأن الطامة الكبرى في أزمة المنتج، التي هي أزمة مستهلك أيضاً، فاعتبروا يا أولي الأبصار، ويا أصحاب القرار!!
عبد اللطيف عباس شعبان/ عضو جمعية العلوم الاقتصادية السورية