هيف عبد الرحمن بلكة.. اختصاص مازال غائباً!!
حين تخرّجت في أكاديمية كييف للفنون الجميلة، اختصاص ترميم لوحات وأيقونات عام 1996، كانت لديها رغبة قوية بالعودة إلى سورية لتعمل في هذا الاختصاص، لأننا نملك حضارة وتاريخاً وكماً كبيراً من اللوحات الفنية النادرة التي يجب الحفاظ عليها، ولكنها أسفت لأنها لم تجد من يُقدّر هذا الاختصاص، على الرغم من أنها كانت الوحيدة التي تحمله في سورية.. فشلت كل محاولاتها للعمل في المؤسسات المعنية بالترميم، كما فشلت محاولاتها – وهي التي درست دبلوماً في الاختصاص نفسه – بأن تدرّس في كلية الفنون الجميلة، مع أنها قدمت دراسة للكلية لافتتاح اختصاص ترميم إلى جانب الاختصاصات الأخرى، رغم أن الكلية برأيها كان يجب أن تكون أكثر حرصاً على وجود هذا الاختصاص الذي مازال غائباً عنها حتى الآن.
لوحات مرممة بطريقة خاطئة
وتبيّن هيف عبد الرحمن بلكة أن الوحيد المختص في هذا المجال هو الفنان الياس الزيات الذي أثنى على أول عمل قامت بترميمه، وزكاها في مديرية الفنون والمتاحف لكي يتم توظيفها والاهتمام باختصاصها، وأنها بعد عودتها لسورية، وعدم قدرتها على العمل مع المؤسسات الرسمية آنذاك، رممت لوحة لإحدى الصديقات، ومن خلالها بدأت تُعرف من قبل الفنانين الذين لديهم لوحات فنية بحاجة للترميم ويقدرّون اختصاصها، مشيرة إلى أنها رمّمت لوحات لكل من لؤي كيالي، وتوفيق طارق، وفاتح المدرس، وصفوان داحول، ويوسف السباعي، وممدوح قشلان، وقتيبة الشهابي ونذير نبعة الذي كان يقتني لوحات مهمة لعدة فنانين فيعطيها لها لترميمها، منوّهة إلى أن المرمم الحقيقي تصبح لديه خبرة تجعله يعرف إن كانت اللوحة لهذا الفنان أو ذاك من خلال توقيعه، وإذا لم يكن التوقيع موجوداً بفعل الضرر الذي أصابها يمكنه معرفة صاحبها من خلال الأسلوب، أما الأيقونات فهي تحتاج حصرياً إلى مخبر لتحديد عمرها من خلال أخذ خزعات من ألوانها، معترفة بأن هناك متطفلين كثراً على هذا المجال، إذ ليس كل من يعرف الرسم برأيها يستطيع أن يرمم، لأن الترميم اختصاص مختلف، موضحة أن المتطفلين الذين يعملون في الترميم لا يعرفون قيمة ما بأيديهم، ويحزنها أنها شاهدت لوحات كثيرة مرممة بطريقة خاطئة، وهي تُفضّل أن تشاهد لوحة بوضعها المزري على أن تشاهدها مرممة بطريقة غير صحيحة، منوّهة إلى وجود اختصاصات في هذا المجال كترميم الورق، وترميم اللوحات والأيقونات، وترميم الفضة والآثار، وقد دُعيت لترميم بعض الوثائق القديمة، لكنها لم تقبل لأنه ليس من اختصاصها، مع تأكيدها على أهمية ترميم الآثار في ظل الأضرار التي تعرّضت لها آثارنا خلال الحرب، وضرورة ترميم النقوش الموجودة على جدران البيوت الدمشقية القديمة، لأن حالتها تسوء يوماً بعد يوم.
عمليات تجميل
تبيّن بلكة أن دول العالم تُقدّر الفن بشكل عام، فالرسام له مكانة خاصة في هذه المجتمعات، والبيوت مليئة باللوحات الفنية، لأن الفن جزء من التربية والتعليم والثقافة، موضحة أن هناك من يعتقد أن الترميم عمل سهل، في حين أنه اختصاص يحتاج لمهارات كثيرة، مشيرة إلى أنها في الأكاديمية درست على يد خبراء وأساتذة كبار، ومارست الترميم بشكل عملي على لوحات تاريخية قديمة بإشرافهم، لأن للوحات قيمتها المادية والمعنوية، ولا مجال للتخريب فيها، منوّهة إلى أهمية مادة تكنولوجيا الألوان التي كانت إحدى المواد الأساسية، لأن من يريد أن يرمم لوحة عليه أن يعرف أساس ألوانها ليستخدم ألواناً قريبة من الألوان المُستخدمة في اللوحة الأصلية، مع إشارتها إلى أن التعامل مع اللون هو آخر مرحلة من الترميم، في حين أن تصوير اللوحة مرافق لكل مراحل الترميم قبل وأثناء وبعد، لذلك تعتبر مادة التصوير من المواد الأساسية في الأكاديمية التي درست فيها بلكة، إضافة إلى مهارات كثيرة يجب أن يتعلّمها المرمم لينجز عمله بشكل جيد، وتمتّعه بثقافة تاريخية واسعة، لأن هناك من يعمل بالترميم ولا يعرف قيمة ما بين يديه من ثروة يجب المحافظة عليها، لذلك تؤكد بلكة أنه من الخطأ الاعتقاد أن أي فنان لمجرد أنه يرسم يستطيع أن يمارس الترميم الذي هو إعادة الحياة للوحة، سواء كانت قماشية أو خشبية، وإصلاح ما أفسده الزمن بفعل العوامل البيئية من رطوبة وحرارة، ومعالجتها من العديد من الأمراض، وبالتالي فإن الترميم ليس إعادة رسم اللوحة أو تلوينها مرة ثانية، وإنما محاولة الحفاظ عليها لزمن أطول قدر الإمكان، منوّهة إلى وجود عدة مدارس في مجال ترميم اللوحات كالمدرسة الروسية التي تكتفي بالمحافظة على ما تبقى منها دون التلاعب أو التدخل فيها، وإنما تقديم بعض الرتوشات التي تحافظ عليها وتعالجها من الأمراض تقنياً من خلال مواد كيماوية أو طبيعية يستخدمها المرمم دون أن يعيد رسم اللوحة حتى لا تفقد هويتها، مشيرة إلى أن هناك من يفهم الترميم بأنه عمليات تجميل يقوم بها المرمم من خلال إضافة مواد عليها ليس من المفروض أن يتم وضعها، وبالمقابل هناك المدرسة الاسبانية التي تعود لمصادر من التاريخ، ولصور اللوحة المراد ترميمها لإعادة رسمها وتلوينها من جديد، موضحة أنها مع المدرسة الروسية في المحافظة على اللوحة كما هي، لأن الاشتغال عليها يفقدها جماليتها وقيمتها.
الأيقونات الأكثر تضرراً
ترى بلكة أن مهنة الترميم قريبة كثيراً من مهنة الطبيب، فالطبيب يتعامل مع كل حالة على حدة، والمرمم كذلك يجب أن يتعامل مع كل لوحة حسب وضعها وحالتها، وأصعب اللوحات التي يتم ترميمها هي اللوحات التي تعرّضت للكثير من الضرر والتلف بفعل الإهمال أو الظروف البيئية، والأيقونات هي الأكثر تضرراً لأنها غالباً ما تكون في الكنائس بقرب الشموع فتتأثر بالحرارة التي تساهم في تآكلها، مشيرة إلى أن أغلب اللوحات والأيقونات المتضررة غالباً ما تكون موجودة في مكان غير صحي، في حين يجب أن تُحفظ في أماكن صحية ضمن ظروف مدروسة وملائمة لتبقى بحالة صحية لأطول فترة، من هنا من الضروري برأيها وجود متحف يضم كل اللوحات الفنية المتناثرة هنا وهناك التي تكون أحياناً بين أيد لا تعرف أهميتها وقيمتها للحفاظ عليها من السرقات والتلف، خاصة أننا لا نقل عن أية دولة بامتلاكنا الثروات الفنية.
وتختتم بلكة موضحة أنها تهوى الرسم، وقد رسمت العديد من اللوحات وقامت ببيعها في كييف، كما دخلت مجال التصميم الإعلاني، أما اليوم فهي متفرغة للترميم الذي يستهلك كل وقتها، مع إشارتها إلى افتقار المكتبة العربية إلى المصادر التي تتناول موضوع الترميم، والسبب عدم وجود مرممين اختصاصيين يقومون بإعداد هذه الكتب، مع تأكيدها على أن هذا الاختصاص لا يُعلَّم بشكل نظري، وإنما هو بحاجة لممارسة عملية، لذلك من الضروري أن يكون لدى كلية الفنون الجميلة بدمشق مثل هذا الاختصاص، خاصة أننا نملك مقتنيات فنية وآثاراً يجب الحفاظ عليها.
أمينة عباس