أمريكا.. تاريخ من العنصرية والمآسي الإنسانية ….
إعداد: إبراهيم أحمد
في الأزمات تسقط دائماً أوراق التوت وتظهر الأمور على حقيقتها دون زيف ويبدأ التاريخ بمظهر جديد ليشكّل مرآة تعكس حقيقة أي أمة. منذ عقود طويلة والعالم ينظر للولايات المتحدة الأمريكية على أنها دولة الديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات، ولكن الوجه الحقيقي للولايات المتحدة بدأ يظهر في الأزمات ليذّكر العالم بتاريخ الأمة الأمريكية وتاريخ الدولة الأمريكية التي أُنشئت أساساً على جثث السكان الأصليين للقارة، وبنت اقتصادها على حساب الشعوب المستضعفة.
لقد اعتاد العالم كله تلقي النصائح والتوجيهات من أمريكا حول الديمقراطية وحقوق الإنسان باعتبارها الدولة الرائدة في العالم في هذين المجالين، بل إن كثيراً من الأمريكيين يحلو لهم وصف بلادهم بـ “مهد الحريات والحقوق الإنسانية” وهو وصف لا يصح بشكل مطلق على أمريكا، ولا يمكن أن ينسحب عليها بشكل عام والدليل ما تبوح به وقائع التاريخ القريب التي يعرفها الأمريكان أكثر من غيرهم، فتاريخ هذه الأمة قد بني على مآسٍ إنسانية يشيب لها الولدان من الاستيلاء على أراضي الهنود الحمر بالقوة ثم دحرهم بدلاً من شكرهم أو حتى التعايش السلمي معهم، وثم الانتقال إلى إفريقيا للبحث عن عبيد يصلحون لهم أراضيهم ويمهدون سبل الحياة المرفهة لهم، وهي فترة من التاريخ لا يكاد يوجد أحد في العالم لا يعرفها ويعرف ما حدث فيها من ظلم.
وفي دراسة حديثة لإحدى ناشطات حقوق الإنسان في أمريكا هي اليزابيث مارتنيه التي تعمل في نفس الوقت أستاذة الدراسات العرقية في جامعة كاليفورنيا تؤكد على أن فكرة (فوقية الرجل الأبيض) والعنصرية هي الأساس الذي شكّل الدولة الأمريكية، وهي معلومة وإن لم تكن جديدة بالنسبة لنا إلا أنها تكتسب أهميتها أولاً من صدورها عن سيدة أكاديمية أمريكية ثم من الأدلة التي ساقتها للبرهنة على صدق ما تقول. فهي تسوق أمثلة متعددة على أن مجد أمريكا الاقتصادي الذي يتباهى به حكامها الآن لم تصنعه إلا بسرقة الموارد الاقتصادية للدول الأخرى، واستعباد العمالة اللازمة. تصل مارتنيه في دراستها إلى حقيقة لا تسعد الأمريكيين وأصدقاءهم خلاصتها أن “أمريكا أول أمة في العالم تولد عنصرية وهي كذلك أول أمة تولد رأسمالية، وهي ليست مصادفة وإنما تلازم ضروري تفرضه الأحداث التاريخية”.
ثم ترصد الباحثة قناعة أمريكية أخرى، وهي أنها أمة قدر الله لها أخذ أراضي الغير، والسيطرة على شعوبها من أجل تحقيق الحرية والحكم الفيدرالي. وأخيراً تصل الباحثة إلى أخطر ما في الأمر وهو أن الرق والعبودية لم ينتهيا في أمريكا، وإنما مازال هناك عبيد يباعون ويشرون داخل حدود الدولة الأمريكية دون أن تذكر (صحافة الحريات) شيئاً عن الموضوع.
أرض الحرية مسكونة بكوابيس العنصرية
إن المتتبع لتاريخ الولايات المتحدة الأمريكية لن يندهش بكل تأكيد من العربدة الأمريكية الحالية، ومن أسلوب القرصنة ضد الشعوب باسم محاربة الإرهاب. وهنا تشير اليزابيث مارتينيه إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية كأمة بنيت على ثلاث حقائق أساسية كلها تؤكد أن فوقية الرجل الأبيض، كفكرة عنصرية هي الأساس الذي شكل الدولة الأمريكية.
الحقيقة الأولى: وهي أن الولايات المتحدة دولة وجدت بالاحتلال العسكري الذي تم على مراحل عدة، المرحلة الأولى تمثّلت بالاحتلال الأوروبي للأراضي التي كان يقطنها سكانها الأصليون، وقبل هذا الغزو الأوروبي كان يقطن أراضي شمال القارة الأمريكية 981 ألف نسمة، ومع نهاية حروب الهنود الحمر، كان هناك فقط 250 ألف نسمة من السكان الأصليين فيما يعرف الآن بالولايات المتحدة الأمريكية، و123 ألفاً فيما يعرف الآن بكندا. بمعنى أن الأمة الأمريكية بنيت أساساً على إبادة السكان المحليين واغتصاب أراضيهم.
الحقيقة الثانية: ان الأمة الأمريكية لم تكن لتتطور اقتصادياً دون استعباد العمالة الأفريقية، فعندما بدأت الزراعة والصناعة بالازدهار في العهد الاستعماري ظهرت الحاجة لعدد كبير من العمال فكان الحل هو استقدام أعداد كبيرة من العمالة الأفريقية كعبيد لدعم القوة العاملة الضرورية لإحداث النمو الاقتصادي في الولايات المتحدة الأمريكية.
الحقيقة الثالثة: تتمثل في قيام الولايات المتحدة بالاستيلاء على نصف المكسيك بالحرب، الأمر الذي مكّن الولايات المتحدة من التوسع إلى المحيط الهادئ، و بالتالي فتح باب التجارة على مصراعيه مع آسيا وفتح الأسواق لتصدير بضائع واستيراد بضائع لبيعها في الولايات المتحدة الأمريكية، وأطلقت الولايات المتحدة على الجزء الذي أخذته من المكسيك اسم تكساس، عام 1836، ومن ثم حّولت هذا الجزء إلى ولاية عام 1845، وفي العام الثالث، اجتاحت الولايات المتحدة المكسيك ثانية واغتصبت جزءاً من أراضيها بمعاهدة عقدت عام 1848، وفي عام 1853، حصلت الولايات المتحدة على جزء ثالث هو أريزونا. وبذلك تكون قد استكملت الحدود الإقليمية لما يعرف الآن بالولايات المتحدة الأمريكية.
هذه كانت الدعائم الأساسية التي بنيت عليها الأمة الأمريكية، وفي عام 1898 أخذت خطوة إضافية تمثلت في اغتصاب الفلبين وبورتوريكو وجوام وكوبا عبر الحروب الاسبانية – الأمريكية، ومنذ ذلك الحين بقيت جميع هذه الدول، باستثناء كوبا مستعمرات أمريكية توفر للدولة الأمريكية موارد الثروة والقوة العسكرية، وبذلك تكون الولايات المتحدة الأمريكية قد استكملت مرحلة الاحتلال والاستعمار المباشرين اللذين ابتدأتهما بالسرقة الدموية للأراضي الأمريكية الأصلية قبل خمسة قرون.
وتقول اليزابيث مارتينيه: إن جذور العنصرية الأمريكية أو ما يعرف بـ(الفوقية البيضاء) تكمن في الاستغلال الاقتصادي عن طريق (سرقة الموارد الاقتصادية واستعباد العمالة)، وتبّرر هذا الاستغلال فيما بعد (بدونية ضحاياها). وكان أول تطبيق (للفوقية البيضاء) أو العنصرية قد تمّثل في الاحتلال الأوروبي – الأمريكي للأراضي الأمريكية بإبادة سكانها الأصليين، ثم جاء عهد (العبودية السوداء) ثم عهد (العمالة المستعبدة). باختصار نقول: إن الفوقية البيضاء والقوة الاقتصادية وُلدتا جنباً لجنب، فالولايات المتحدة الأمريكية هي أول أمة في العالم تولد عنصرية، وأول أمة أيضاً تولد رأسمالية، وهذه ليست مصادفة، تقول اليزابيث مارتينيه ففي الولايات المتحدة الأمريكية، يظهر التاريخ أن الرأسمالية والعنصرية يسيران جنباً لجنب. وتذكر مارتينيه أنه ومنذ منتصف القرن التاسع عشر، عززت الحملات الاستعمارية الأوروبية الشعور بـ: فوقية الرجل الأبيض، وظهر في الولايات المتحدة مبدأ (القدر الواضح) الذي يقول: إن (الولايات المتحدة قدّر لها الله أن تأخذ أراضي الغير وتسيطر على شعوبهم). وقد استخدم هذا المصطلح للمرة الأولى عام 1845 في إحدى المجلات الأمريكية التي ذكرت “لقد منحنا الله حق التوسع وامتلاك القارة بأكملها من أجل تحقيق التجربة العظمى من أجل الحرية وتطبيق الحكم الفيدرالي”.
يمثل مبدأ (القدر الواضح) سياسة عنصرية واضحة انتهجتها الولايات المتحدة منذ زمن بعيد سهّلت عليها التوسع الجغرافي والتطور الاقتصادي على مبدأ أحقيتها في ذلك بسبب تفوقها الأبيض، وكانت نظرتها للشعوب الأخرى وراء نجاحها في الوصول إلى ما تريد، فقد نادى البيض منذ زمن بضرورة إخراج السود من أمريكا لتجنب التلوث الذي تسبّبه تلك الشعوب السوداء. وكان قبل ذلك السكان الأصليون قد عانوا من معتقدات الفوقية البيضاء، التي لم تكتف باعتبارهم قذرين، و(همجيين)، ولكنها اعتبرتهم دونيين في معتقداتهم وقيمهم.
تؤكد اليزابيث أن عنصرية (الفوقية البيضاء) وما تمثّله من عنجهية مازالت تسيطر على المجتمع الأمريكي، ومازالت تحتفظ بعدوانيتها العنصرية. ولكن هل توقف الأمر في الولايات المتحدة عند العوامل التي تحدثت عنها اليزابيث من عنصرية وفوقية بيضاء ورغبة جامحة منذ البداية بإقامة مجتمع رأسمالي يمثل شركة كبيرة همّها الأوحد الربح والخسارة دون أي اعتبار لأي قيم؟ شركة تقوم فقط على الانقضاض على موارد الشعوب أينما وجدت على اعتبار أن هذه الشعوب غير قادرة على حماية مواردها والاستفادة منها؟.
إن المتتبع لما يجري في الولايات المتحدة الأمريكية يدرك أن عهود العبودية السوداء لم تنته بعد، وإنما أصبحت تأخذ أشكالاً جديدة مع احتفاظها بالمعايير نفسها، وتقول الدراسات التي قام بها مركز (ابوليش) المناهض للرق أن هناك آلاف العبيد الذين يعيشون حالياً في أرض الحرية، ولكن بالطبع دون أن تجري مزادات لبيع الرقيق على الملأ، فالعبودية المعاصرة في الولايات المتحدة الأمريكية أصبحت تتم في الخفاء وتعتمد أساليب الخداع والتهديد، ولكن ممارستها لا تقل قسوة عن ممارسات (مؤسسات الرق) التي انتشرت لعقود مضت.
وبحسب الإحصائيات الرسمية، هناك أكثر من 27 مليون عبد في العالم الآن، وهناك 50 ألف امرأة وطفل ينتقلون إلى الولايات المتحدة من أجل أعمال السخرة، ويعاني آلاف الرجال من العبودية، ولكن نادراً ما نسمع أو نقرأ عن هذه الأمور في الصحافة الأمريكية.
يقول كارول جوميه منسق مشروع مناهضة (مقايضة النساء)، إن رجال أعمال كباراً في الولايات المتحدة الآن في بيركلي، وفيرجينيا، وواشنطن وغيرها من الولايات يشكّلون مراكز لاجتلاب النساء والأطفال والرجال لأغراض متعددة. ويقول: إنه في أحسن الأحوال يعمل هؤلاء كعمال سبعة أيام في الأسبوع لأكثر من 12 ساعة يومياً ويتقاضون رواتب لا تتعدى مائة دولار شهرياً، ويقول: إن هناك الآلاف والآلاف من هؤلاء العمال، وغيرهم من الخدم والمستخدمين الذين لا يعرف عنهم أحد أي شيء لأنهم غير قادرين على الخروج من أماكن عملهم أو الاتصال بأحد عبر الهاتف أو أية طريقة أخرى. وإذا كانت الأحوال كذلك في الولايات المتحدة الأمريكية وأرض الحرية الآن، فهل يمكن لمن عانى من قمع وقهر العبودية هناك لعقود طويلة أن ينسى التاريخ والحاضر؟.
في هذا الإطار نشر أنيت جوردون ريد مقالاً في “الناشيونال هيوجرافيك”، وهو كاتب أسود يستذكر فيه تلك الأيام التي كان العبيد فيها يورثون من الأب إلى الابن إلى الحفيد كرؤوس الماشية دون اعتبار لأي روابط أسرية أو مشاعر إنسانية. يقول ريد في كتاب له بعنوان (العبودية الجنوبية) في الولايات المتحدة الأمريكية من مائتي عام كان الأثرياء البيض يشترون عبيداً لهم من السود يسخرونهم لخدمتهم ولحرث أراضيهم، وعندما يموت صاحب العبيد يتقاسمهم ورثته بالقرعة، كما يتقاسمون رؤوس قطيع الغنم دون أي اعتبار للعلاقات الأسرية، فحين كان يوزع العبيد على الورثة لم يكن يفكر الرجل الأبيض بأن يبقي على أفراد العائلة الواحدة معاً كأن يبقى الزوج والزوجة والأبناء في خدمة رجل واحد، بل كان يوزع أفراد العائلة على مجموعة من الورثة فيفصل أفراد العائلة كل في منطقة، وقد لا يلتقي الأخ بأخيه والأم بأولادها لسنوات طويلة، وقد لا يلتقون أبداً. ويقول ريد كلما قرأت ذلك أشعر بالصدمة لما تكشفه هذه المرحلة من قسوة العبودية الأمريكية: كيف يتحكم فريق من البيض بمصير عائلات بأكملها من السود وكيف يمزقون شملهم. ويضيف: في مجتمع يعامل فيه البشر كممتلكات، ويضع حق الملكية الخاصة فوق القيم، ويحرم الإنسان المستعبد حتى من أن يحلم بالإبقاء على روابطه الإنسانية البدائية، وفي ظل ثقافة الهيمنة التي سادت المجتمع الأبيض، لم يشعر السادة البيض بوجود أية قيمة، أورابطة مقدسة في حياة السود.
ولكن ريد يرى أن هناك الكثير مما هو مقدس عند السود، فهم أولاً وقبل كل شيء بشر، ولديهم الرغبة بأن يشعروا بالكرامة الشخصية، وأن يشكلوا أسرة ويحافظوا على الروابط الأسرية ويعيشوا أجواء العلاقات الأسرية الحميمة، ومن حقهم أن يبنوا مجتمعات وأن يشعروا بأنهم جزء من هذه المجتمعات وأن يعبروا عن روحانياتهم.