“الأنشودة الأخيرة”.. التداخل الروائي بين الأزمنة والمقاومة
“إنها الذئاب والوحوش الضارية تأتي من بلادهم اللعينة لتنهش بلادنا وتأخذ خيرات أرضنا، ثم تجلس على عروشها، تطرد شعبنا وتدمر حضارتنا وتمحو ذكرياتنا.. وتفني أطفالنا وشبابنا”
هذه الكلمات باح بها أحمد من سجون الاحتلال الصهيوني في الرواية التي خطتها مادلين إسبر “الأنشودة الأخيرة”، الصادرة عن دار المسبار، وسردت فيها على إيقاعات الوصف والحنين والوجع سيرة البطل أحمد طافش التي أمضاها في السجون، فتعددت مستويات السرد وتباينت بين جماليات اللغة الشعرية والواقعية.
تميزت الرواية بالاشتغال على الأزمنة الروائية بالدمج بين الزمن الفعلي والزمن الماضي الذي يتخلل عتبات السرد والأحداث بمشهدية تأسر القارئ، لنكتشف في النهاية الزمن الثالث المتخيّل والمختبئ بين السرديات، لترتكز في زوايا منها على التوثيق الروائي، وتستحضر بعض الأحداث التي تزامنت مع القضية الفلسطينية منذ بدايتها من أيام الاحتلال الإنكليزي لفلسطين إلى امتداد المقاومة إلى (أبو عمار) إلى سورية ولبنان والمخيمات، وأظهرت العلاقة التلاحمية بين سورية وفلسطين، لتتوقف عند الخيانات التي تتكرر مع الزمن.
المخيمات والتهجير
تمكنت إسبر من إتقان لعبة الزمن فبدأت الرواية من الخطف خلفاً من المشهد الأخير من بيوت المخيم الذي وصفته الكاتبة بمخيم القهر والدموع والحكايات الأليمة، لتمتد بتصوير سينمائي سردي لواقع الحياة ومأساة الأطفال “الأطفال في الطرقات حفاة الأقدام.. وجوه رسمت عليها خرائط من التراب والدموع” لتلتقي ماريا مع أحمد طافش الذي خطت سنوات العذاب أخاديد عميقة على وجهه، وتمضي الكاتبة بسرد قصة البطل أحمد الذي ولد عام 1901 الملقب بالقوي الذي يقود ثواراً ضد الإنكليز منطلقة من صفد التي عاش فيها الثورة والنضال، فتنحرف من وصف المخيم إلى وصف المدينة “ينابيعها المنتشرة هنا وهناك كعيون نسر تتوزع الأمكنة” ليتوازى مسار السرد مع خط عشق أحمد خديجة مع قلق الحرية والنجاة والحياة الكريمة إلى أن ألقي القبض على أحمد من قبل الإنكليز بتهمة حيازة الأسلحة بعد أعوام قليلة من زواجه من خديجة، وتعود إلى الماضي باستحضار خيانات الحكام لشعوبهم مستحضراً أحمد قصة سيدنا يوسف “فغدر إخوة يوسف به تكرر ومازال يتكرر عبر تاريخنا الطويل”.
ذروة الحدث هو المقاومة من الداخل ولقاء الكثير من الثوار داخل الجدران السوداء والحكم بالإعدام على أحمد “مصاعب الحياة كانت تجلدني جلداً، السجن، التهجير، المرض، الفقر، والآن الإعدام وخديجة التي كانت دائماً بانتظاري”.
مرارة الواقع أضفت على صفحات الرواية مسحات من الرومانسية في زيارات خديجة لأحمد، إلا أن اللقاء الأخير حمل الكثير من الدموع وآلام الوداع “المارد الغافي في أعماقنا لاندركه إلا ساعة تدق النهاية أجراسها معلنة نهاية الدور الذي نلعبه على مسرح الحياة”.
المفاجأة القدرية أن حكم الإعدام بأحمد تحوّل إلى مؤبد والسبب يعود إلى تدخل مدرّسة إنكليزية تدرس في إحدى مدارس صفد قامت بمظاهرة مع طلابها ناشدت العالم كله والملك جورج السادس وهي ابنة أخته، بأن أحمد طافش زعيم مناضل ضد الاضطهاد والظلم والاحتلال وليس مجرماً، وأدرك أحمد أن تخفيف الحكم كان خوفاً من غضب الأهالي.
وتابعت الكاتبة معاناة السجن بالتعذيب والبرد والغيرة بعد قرار والد أحمد أن تطلق خديجة لتتزوج. وبعد مضي سبع سنوات تم تخفيف الحكم إلى خمسة عشر عاماً “حياة خارج إطار الحياة فهي مدّ وجزر.. نحاول أن نعيش بالتحدي بالأمل بالفرح” والإضراب عن الطعام لم يجد.
وتعود الكاتبة إلى استحضار التاريخ بعقد المؤتمر الإسلامي وجعل القضية الفلسطينية ليست عربية فقط وإنما إسلامية، بمشاركة ممثلين عن اثنين وعشرين بلداً عربياً وإسلامياً، وطرحت قضايا عدة، منها تشكيل لجنة دولية للتحقيق في المشكلات بين العرب واليهود، تبعتها ثورات ضد زيارة بلفور لفلسطين وتأييد الثورة السورية، لكن كان هناك ضعف في قيادة الحركة الوطنية، وزيادة الهجرة الصهيونية، وإسرائيل تستمر في تهويد فلسطين.
ومضى السرد الروائي بحديث الذكريات بين أحمد وماريا لنكتشف في نهاية الرواية أنه متخيّل، فتوقف عند وصف الأحكام الشاقة” تكسير الصخور والحجارة طوال اليوم مع قليل من فتات الطعام، وما يؤلم حديث أحمد عن تعذيبه بضغط الضابط الحقير بسيجارته المشتعلة على جسده.
حادثة هربه للمرة الثانية كانت أشد ألماً حينما أعاده الحراس مكبل بالسلاسل، ومضت السنوات في الزنزانة رقم واحد “إرث من بطولات النضال الطويل” إلى أن أخبر مدير السجن أحمد عن إطلاق سراحه، ليرى الحياة بعد مرارة خمسة عشر عاماً في أقبية السجون. لكن الاحتلال مازال قائماً والنضال مازال مستمراً، ويتحدث عن الأبطال السوريين الذين تطوعوا بالمقاومة في فلسطين، وبعد خروج أحمد تابع العمل النضالي وكانت المدن تسقط الواحدة تلو الأخرى. وتستمر المقاومة رغم التعذيب وتعلو الزغاريد والهتافات لإسقاط وعد بلفور والإنكليز والصهاينة.
المقاومة من سورية
أحمد يلتقي مصادفة بسميحة فيشعر أنها أخذت روحه.. يتزوجها ويتابع طريقه مع الثوار بسرية تامة في الوقت الذي دخلت فيه الجيوش العربية باستثناء الجيش المصري الذي ينتظر الأمر من الملك فاروق، لتعود الخيانة من جديد ويتفرق الناس بالقنابل وتعلو الاستغاثات والشاحنات تنقل الناس وحكايات حزينة عن التشتت “صرخات وصرخات تملأ الدنيا، والرحيل إلى لبنان وسورية، وانطلاق الشرارة الأولى للثورة من درعا باسم العاصفة” وبعد سنوات يموت أحمد على حضن سميحة بهدوء، ويتابع ابنه خليل وآخرون دور أحمد مع (أبو عمار) وإلى الآن تستمر المقاومة والصمود لحماية فلسطين والقدس وتبقى صورة أحمد المعلقة على الجدار شاهداً.
ملده شويكاني