القمح السوري!
حسن حميد
يكاد المرء يخرج من جلده، ويفرُّ من عقله، ويفارق إحساسه وهو يرى ما الذي تفعله اليد الغربية من ظلموت بحق من أرادت تطويعهم، أو إلحاقهم بها، أو سحقهم نهائياً، أو جعلهم خارج التاريخ! إذْ لا شيء مما تفعله اليد الغربية يبدو دانياً من الحس الإنساني، أو البعدين القيمي والأخلاقي، أو ما تنادي به العقلانية!
أقول هذا، وأنا أرى أن الهيمنة الغربية باتت أكثر بطشاً ودموية وبعداً عن الإنسانية، وكأني بها غدت آلة ذات مسننات تلوك كل من يواجهها من دون أي اعتبار أخلاقي أو تربوي أو قيمي، وإلا ماذا نعد هذا الذي يحدث فوق الأراضي السورية في مناطق الجزيرة التي هي كوارة القمح السورية، والبئر التي تروي الاقتصاد السوري وترفده بالمعززات، والسلة الغذائية التي تقوّت الشعب السوري، من حرق للمحاصيل بالبالونات الحرارية التي ترميها الطائرات الأمريكية؟! ومن سرقة علنية مكشوفة تحت الأنظار للنفط السوري الذي يباع في الأسواق العالمية بدءاً من تركيا التي رضيت أن تكون بيدقاً صغيراً بيد الغرب، وانتهاءً بالأسواق البعيدة! ومن فرض للعقوبات تلو العقوبات التي تضر بالشعب السوري الذي كابد كل لعنات الغرب وأتباعهم خلال عشرية زمنية قذرة (من عام 2011 وحتى الآن)، غايتها تركيع هذا الشعب الذي أعلن وبالصوت العالي منذ عشر سنوات أخيرة، بل من قبل سبعة آلاف سنة، إنه شعب غير مستعد للركوع، لأن ما من كلمة في عقله أو روحه أو طبعه أو قاموسه اسمها الركوع!
قطط وكلاب تموت في الغرب، أو تتعرض للأخطار، في محطة قطار باردة، أو كوة مدخنة عالية، أو سياج شوكي، يتحدث عنها الغرب ببعد إنساني لا يدعو إلى التعاطف والرفق بالحيوان فحسب بل يدعو إلى البكاء، في حين يقتل الغرب، وفي مقدمته الولايات المتحدة الأمريكية، ويدمر، ويهدد، ويحاصر، ويتوحش إلى أبعد أشكال التوحش الدموي بدم بارد، وصلف مقيت، ضد بلدان وشعوب العالم، وكأن ما يفعله (واجباً إنسانياً) أو استجابةً طبيعيةً إلى كل ما تعلّمه من التاريخ!
أيها الغرب نحن نعرفك جيداً، وإن كنت تريد لنا التجهيل وعدم المعرفة، ونعي تماماً ما تريده، وإن كنت تريد سلبنا حساسية هذا الوعي، وندرك جيداً أنك تحولت إلى شركة بات همها الأرباح وتنفيذ متطلبات المصالح، وأنت لا تريد أن تعي هذا، ولأننا نعرفك لابد من الإشارة إلى حيثيات عشتها ثوراتٍ، وكتاباتٍ، ومناظراتٍ، وجدلاً ثقافياً، وتنقيباً فلسفياً، واشتقاقاً تربوياً لنماذج إرشادية هدفها خلق مجتمعات متطورة وحديثة وإنسانية، وفي طالع هذه الحيثيات الثورات التي قامت بدءاً من الثورة الفرنسية 1789 إلى ما سمي بالعالم الحر، والسلم العالمي، والعدالة الدولية، وحقوق الإنسان، والمنظمات الدولية، وكلها نادت بالأخوة الإنسانية، وأن العالم قرية واحدة، وإعلاء شأن السيادة إلى رتبة القداسة، والاعتراف بحقوق الشعوب، لكن أين هو الغرب من هذا كله، وهو يرى طائرات الولايات المتحدة الأمريكية ترمي البالونات الحرارية (في مواسم الحصاد) من أجل حرق القمح السوري الذي يعني رغيف المواطن السوري، أيريد الغرب تجويع هذا الشعب وحرمانه من تعبه وزراعته وفرحه بالمواسم والغلال، أيريد الغرب أن يظل غرب غوته، وكانط، وفلوبير، وسارتر، ومونتيسكيو، وديوي، وهمنغواي، وبوكاشيو، وموزارت، وشوبان، ومدام كوري، وباستور، وأديسون، وبرنارد شو، وشكسبير، لكي نظلَّ نقدره ونحترمه ونصدقه حين يتحدث عن الأخلاق والقيم والبعد الإنساني، أم يريد الغرب أن يكون غرب هتلر، وهنري ترومان، واللنبي، وتشرشل، وبلفور، وتاتشر، وغوبلز، وساركوزي، وموسوليني، ونيكسون، وبوش (الأب والابن)، وترامب حتى نسلّم بأنه آلة مسننات حديدية، وأنه غادر مربع الإنسانية إلى مربع التوحش والفتك بالآخرين، وأنه حوّل العالم إلى غابة بلا قانون، وأنه رمى بالثقافات والفنون والمعارف والقوانين والقيم في سلال القمامة، إن كان الغرب كذلك ورضي بهذا الدور الذي يقوم به، فنحن نؤكد له أنه ما عاد الغرب الذي عرفناه واحترمناه، وأننا سنظل عشاقاً لأرضنا، وقمحنا، وسيادتنا..
Hasanhamid55@yahoo.com