“قلبي ما زال حياً”.. أسئلةٌ في فلسفة الحب والحرب
ارتكزَ التجريبُ لدى طيفٍ واسعٍ من الكتّاب السوريين الشباب، ولاسيما في حقلي القصة والرواية، على البحث عن كل ما هو حداثوي جديد ومختلف في صوغ الحكاية وطريقة سردها، وتوظيف الأحداث غابرها وحاضرها توظيفاً صحيحاً ووافياً، فضلاً عن التعبير اللغوي الشائق الكثيف، وضبط الزمن، والرغبة المحمومة في تقديم إبداعٍ يجهرُ بكل ما هو موضوعي وجمالي في آن معاً، غير أن هذا كلّه سيصير مغامرة محفوفة بالمخاطر ما لم يحدّد الأديب الهدف ويحقق الانسجام المبتغى للعناصر آنفة الذكر مجتمعة.
وعلى هذا نزعمُ أن الكاتبة خلود إبراهيم قدّمت في روايتها “قلبي ما زال حياً” عملاً مختلفاً أتقنت في جزء كبير منه توظيف تلك العناصر، غير أن اعتمادها النمط التجريبي كخيار مشروع ووحيد قد أفضى إلى انسجام منقوص، كان يمكن استدراكه لو لم تقع تحت فتنة السرد وغواية الكتابة الغائمة الهدف، كما سنلاحظ لاحقاً، حيث تتقصّد منذ السطور الأولى الإيحاء للمتلقي بأنها تكتب رواية، فتقول مخاطبة حبيبها المضيء ص11: “سأكتبك هنا في هذا المكان من دون أوراق أو أقلام، سأفسح المجال لذاكرتي أن تكتبكَ، ولا أدري كيف ستكون حكايتي معك؟”.
في زمن دائري امتد ثمانية أيام، بدأ مع فنجان قهوة أم إبراهيم وانتهى عنده، تبني الكاتبة فصول روايتها، لتؤرّخ لعذابات وطن جريح وشعبٍ ما زال متمسكاً بالأمل رغم الانكسارات الكبيرة والخيبات المرّة المتتالية عبر شخصيتين اثنتين، اختزلت فيهما نظرة الإنسان السوري إلى الحرب المجنونة التي تعصف بالبلاد اليوم، ولتقدم لنا درساً بليغاً في الفارق بين ما هو افتراضي وما هو واقعي في شبكة العلاقات الاجتماعية التي تحدّد مصائرنا ومآلات حياتنا بما يسمها من تناقض، وما بين ذلك كلّه من وهمٍ نعيشه أو نتعايش معه، واستغرق جزءاً يسيراً من الأحداث، لترسو بنا عند السؤال الوجودي الأهم، وعلى لسان بطلتها ص 141: “أسئلة.. أسئلة.. لقد كنت أدور في فراغ من حب وأسئلة؟!”.
تلك الأسئلة سرعان ما تتناسل لتوقع القارئ في شرك محيّر عما تريد الكاتبة قوله من هذا المنولوج الطويل جداً، والذي اتخذ نسقاً سردياً باتجاه واحد كانت “روني” بطلته المطلقة، في حين كان نظيرها أو حبيبها “المضيء” يظهر حيناً ويتوارى أحياناً كثيرة، في لعبة درامية استأثرت الأنثى بالبوح فيه لتدين الحب الافتراضي الذي يعيشه آلاف الشباب والشابات في ظل العالم الافتراضي، وتذهب فيه إلى الاعتراف بأنه عالمٌ وهميٌّ سرعان ما ينكشف زيفه وكذبه حين يصير واقعياً أو حقيقة ماثلة لكلا الطرفين المرأة والرجل!!.
إن مردّ الحيرة باعتقادنا هو كمّ التناقض الذي أوقعت به الكاتبة قارئها، ولاسيما وهي تفلسف مفهوم الحب، في زمن الحرب، وقيمته التي نزعم أنها من القيم النبيلة.. الحب الشوق والحنين، الانتظار والغياب، الحزن والفرح، تلك الثيمة التي هيمنت على الأغلب الأعمّ من منتجنا السردي وخطابنا الروائي على نحو أدقّ، بما يوازيها من مفردات الحزن والشجن، الحضور والفقدان، إذ تقول الكاتبة ص 121 “فأنا يا عزيزي كنت كومةً من حزن ورماد، أعيش حالة من الفوضى والكآبة، وأتيتَ أنت.. نعم أنت ولا أحداً غيرك.. تجسّدت في حياتي فرحاً.. حباً.. أملاً وإيماناً.. آمنت بوجودك يا حبيبي، وكيف لا أؤمن وقد غيّرتني ونقلتني من حال إلى حال؟”.
بعدها تنطلقُ إلى فلسفة هذا الحب بمستواه الواقعي، ففي حين تراه في ص 110 عبودية بقولها: “عندما نحب شخصاً ما إلى درجة الامتلاء، والتشبّع بحبه حتى الغرق به تماماً، فإننا وبشكل تلقائي نحاول أن نفعل أيّ شيء له، لنعرب له عن عمق شعورنا تجاهه وتمسكنا به ورغبتنا الدائمة بأن نكون معه بطريقة تشبه العبودية.. أنت سيد حياتي فلا تحرمني عبودية اخترتها بنفسي ولا أريد أن تعتقني منها”!!.
لتنكفئ تالياً وتناقض ما سبق، في حرية الحب، بالقول صـ127: “الحب يا عزيزي لا يكون قسراً بل طوعاً.. إنه يتدفق في كل القلوب كما يهطلُ المطر فوق كل البقاع.. يسيرُ في أوردتنا وشراييننا كما الجداول في الأرض التي تفتح ذراعيها له.. لم أرد أن أجبرك على حبي ما لم يتدفق وحده في قلبك.. لا أريد فرضه عليك، لأن الحب لا يقبل أن نفرضه على الآخرين”.
الحب الذي سيغدو كذبة وقد عرّاه تأرجحُ رغبة المضيء في لقائها لتنطوي على ذاتها وتقول في ص 159: “لقد خفت أن تصدق أحاسيسي وتثبت لي الأيام والظروف أنك كاذب حقيقي.. لم أخف أبداً من فقدانك شهيداً لأنه لو حصل فهو قدر، وبالنسبة لي فقداني لك شهيداً أهون ألف مرة من فقدانك كاذباً”!!.
أما عن السرد الذي جاء باتجاه واحد، كما أسلفنا، فقد تفاوتت مستوياته، إذ سيبدو مقنعاً إلى حدّ كبير في قولها ص100: “واسأل الله أن تفتح عينيك.. أريد أن أراهما.. ما لونهما.. طريقة نظرتك.. اتساعهما؟.. اسمح لي أن أنفذ من خلالهما إلى داخلك البعيد الذي كنت تبقيه محاطاً بسرية كبيرة.. دعني أنفذ لأرى روحك.. أليست العيون مرآة الروح.. إذن افتح عينيك لأرى روحك”.
في حين تذهب إلى سردٍ بسجعٍ مجانيّ لا يخدم وصف أحداث الرواية، تقول ص43: “آه يا عزيزي.. لم أعرف في تلك الفترة أني سأجد فيك رفيق وحدتي، ولم أدرك أن المرايا ستخضر في غرفتي، وستهمس الوسادة يا فرحتي، وسأشهد رقصها وهي ولهى في غرفتي، وستلمع فوق السرير نجمتي، والورد سيصرخ ارحلي يا وحدتي..”. أو في ص98 “أتدري.. من رحم ذلك الخوف النامي في داخلي ولد إيمان عميق أننا كنّا على موعد مع اللقاء.. كنا سنلتقي في المدى الممتد بين حنيني وحنينك.. شوقي وشوقك.. سيتحدان ويتهامسان، وربما سوف ينتشيان، هناك أيضاً سيتآمران ومن أجل تغيير حياتنا سوف يبغيان، وكل الحدود سيعبران وعلى حواف الخطر سيمشيان.. وفي غابات الخوف والحذر سيخوضان.. شيئاً من الأحاسيس سيجربان.. ونخب اللقاء سيقرعان”.
إن ما سبق لا ينقصُ من أهمية الرواية التي سعت الكاتبة فيها إلى التأريخ للحرب الدائرة اليوم، ونزوعها في خطوتها الأولى إلى التجريب في تقديم عمل إبداعي مختلف في لغته وجمالياته وممكناته الفنية الموازية، مدركين دائماً وأبداً أن مسيرة الألف ميل تبدأ بخطوة.
عمر محمد جمعة