“منحنى خطر” في زمن كورونا
ما من رمزية ما يحملها العرض المسرحي “منحنى خطر” (إعداد حسام خربوطلي – إخراج حكمت نادر العقاد) عن نص للكاتب والمؤلف البريطاني جي بي بريسلي، لا من جهة التوقيت ورمزيته، على اعتباره أول عرض مسرحي يكسر الحظر العالمي الذي ضربه “الكورونا، ولا لطبيعة العرض أو مضامينه أو ما يمكن له أن يقدمه في هذا الوقت الحرج محليا وعالميا، أيضا ولا لجهة كونه عرضا مسرحيا زائرا من حلب، وقُدم سابقا على خشبات مسارحها، بل هو كما أخبر “عماد جلول” مدير مديرية المسارح والموسيقا، متابعة لخطة الوزارة الثانوية الموضوعة التي أوقف الكورونا فعالياتها.
بإلقاء نظرة نقدية على هذه النسخة من العرض المسرحي “منحنى خطر” الذي قُدم مؤخرا على خشبة مسرح الحمرا، فالنص حدث وأن استهوى العديد من المخرجين سابقا ولكن بالتأكيد، كل عمل يحمل هوية صُناعه، خصوصا وأن العرض المسرحي هو مسؤولية جميع المشتغلين فيه، على مستوى الإخراج، الإعداد، التمثيل، السينوغرافيا، الدرامتورجية، ويمكن أن نبدأ من الدرامتورجية التي لم تكن حاضرة كما يجب أثناء التحضير للعرض، فجعل لغة العرض باللهجة المحكية، ليس هو فقط ما يجعل من العرض مُوطنا، هذا ينسحب على الديكور، الموسيقا، الأداء، السينوغرافيا عموما و”الميزانسين” أيضا، فكلها إضافة لمقولات العرض وحوامله، يجب أن تخضع بحزم لعملية درامتورجيّة مدروسة، فلا يُسمى بيت “مطر” بـ “كوخ”! ولا يحضر الراديو الكلاسيكي في سهرة تحدث كما هو مفترض في الزمن الجاري، خصوصا وأن الجوال تم استخدامه في العرض، وأيضا ما من أشخاص يتابعون اليوم إلا ما ندر، أو ينتظرون أن يستمعوا لعرض مسرحي على الراديو إنهم ليسوا مضطرين لذلك، نحن في زمن تقني، بكبسة زر تستطيع الاستماع إلى ما تشاء، لا البحث عن أي مادة مسلية بإبرة الراديو كما فعلت إحدى شخصيات العرض.
اختار المخرج المذهب الستانسلافسكي للترجمة البصرية للحكاية، مجموعة من الأصدقاء يسهرون في بيت أحدهم، ستة أصدقاء ثلاث نساء وثلاثة رجال، مع حضور كثيف للشخصية الغائبة “مطر” من خلال الحوارات والأحداث التي تحصل أثناء تلك السهرة، الأصدقاء من الطبقة البرجوازية، وما ذهب إليه “بريسلي” من تصوير للانحلال الأخلاقي لهذه الطبقة، حضر في العرض السالف الذكر محكيا! وهذا ما أصاب العرض بمقتل الرتابة؛ الكلاسيكية المفرطة، عدم التجانس بين مفردات السينوغرافيا، الديكور جاء ثقيلا وقطعة واحدة، بعض النوافذ بستائرها الفخمة، وبعض قطع من الأثاث المكون من عدة “كنبايات” موزعة على يمين وشمال المساحة التي شغلها العرض في مواجهة الجدار الرابع، لقد كانت الكواليس مكشوفة، خصوصا وأن الديكور يبدو مصمما لخشبة أخرى، وهذا لا يمكن أن يحتمل الرمزية التي من الممكن أن يتبناها المخرج، بكونه يقصد أن يشاهد الجمهور ما يقع من أحداث ضمن العلبة الإيطالية وهو يدرك ذلك وفق المذهب المسرحي البريخيتي، خصوصا وأن كل مفردات العرض بأكملها جاءت من المذهب الآخر، فإن كان انكماش كتلة المكان رمزيا، فقد جاء بأثر سلبي على “الميزانسين” عموما ومنه حركة الممثلين التي تقيدت بالمساحة الضيقة المتبقية بين الأثاث وفي عمق الخشبة، وما من ذروات درامية يحققها الأداء في الفضاء الركحي، لا على مستوى الحركة ولا على مستوى الصوت، بل كان من يعلن عن ذروة مصيرية بالنسبة للمشاهد، هو دقة الساعة الكلاسيكية، الشبيهة بدقات ساعة المحكمة الجدارية، فما يدور بين الممثلين من حوار، نصفه غير مسموع بالنسبة للمقاعد الخلفية، كما أن المخرج لم يقم بإعداد الممثلين على مستوى الأداء الصوتي، الذي يجب أن يتنوع كما الأداء الحركي –الغائب هنا أيضا- حسب الحوار والذرى الدراميّة، وهكذا فات الجمهور أكثر من نصف الحوار، ما يؤكد أيضا أن العرض برمته صمم على خشبة صغيرة المساحة في صالة صغيرة عدد كراسيها أقل وبالتالي عدد الحضور، قياسا بخشبة مسرح الحمرا، وكان بالإمكان حل هذه “المعضلة” عن طريق “المايكات”، لكن هذا لم يحدث.
خيار المخرج لم يكن موفقا في سرده الحكاية، التي تحتمل نظرا لطبيعتها القائمة على المكاشفات الصادمة للانحلال الأخلاقي السائد في الطبقة البرجوازية التي يهاجمها “بريسلي”، فكل ما يحدث في العرض الحلبي الزائر، يحدث لفظا: الفعل “act” الذي هو جوهر ممثل “actor” اقتصر على اللفظ، الذي جاء كما أسلفنا خافتا ووفق رتم واحد لا يتبدل مع تبدل الحدث أو الحبكة، مونولوجات قام ممثلو العرض بتأديتها، والباقي منهم يستمع كالجمهور، خلا عن أفعال حركية انفعالية بلا توظيف فعلي لها أثناء الحدث، وكان بالإمكان وفق هذه الرؤية الإخراجية للعرض، تقديمه إذاعيا، فلا شيء مهم فعلا سيفوت المستمع.
السؤال الذي يجب أن يطرحه أي شخص يريد تقديم عمل فني ما، هو “كيف أقدم؟”، وليس “ماذا أقدم؟”، فالشكل – وفق أحدث الدراسات النقدية – صار هو المضمون، والتعامل مع جمهور اليوم في المسرح بشكل خاص باعتباره الفن الأكثر هشاشة اليوم بين الفنون، ولا يمكن أن يحقق النجاح وفق تقنيات قديمة أكثر من كونها كلاسيكية، فـ “الميزانسين” الذي جاء من ضمن التطورات الهامة التي شهدها المسرح ومنذ القرن التاسع عشر، من آدولف آبيا مروراً بـجودت كريج وستانسلافسكي وصولاً إلى آخر الأساليب الإخراجية، هي تنويعات على مهمات “الميزانسين” في الوظيفة والتعبير وحتى يصبح جنس العرض المسرحي معبراً عن جوهره دون انمحاقه تحت سطوة الأدب، أما في عرضنا فقد جاء غير محترف، دون توظيف فعلي يخدم القصة وتقديمها مسرحيا.
بالتأكيد لا بد من شكر الجهد الذي بذله طاقم العرض، وهو لا ريب ليس بالجهد القليل، خصوصا في زمن يعاني فيه المسرح ما يعانيه، لكن لا بد من مراعاة وبشدة جودة ما نُقدم في المسرح، يكفيه ما فيه!
تمّام علي بركات