دراساتصحيفة البعث

“الجنائية الدولية” على المحك الأمريكي

ترجمة: عناية ناصر

 عن ناشونال ريفيو 14/6/2020

 

وصلت معركة الإدارة الأمريكية ضد محكمة الجنايات الدولية ذروتها بإصدار الرئيس الأمريكي ترامب أمراً تنفيذياً بإخضاع موظفي المحكمة لقيود تأشيرة دخولهم إلى الولايات المتحدة وتجميد الأصول الخاصة بهم.

ويعتقد أن السبب هو أن محكمة الجنايات الدولية قد طلبت، منذ عام 2017، فتح تحقيق في معاملة الولايات المتحدة للمعتقلين في أفغانستان، وفي أماكن الاحتجاز التي أقامتها وكالة الاستخبارات المركزية في ليتوانيا وبولندا ورومانيا، بدعوى “أفعال تعذيب ومعاملة قاسية واعتداء على الكرامة الشخصية وأفعال اغتصاب وعنف جنسي”.

وعلى الرغم من أن الدائرة الابتدائية في المحكمة كانت قد رفضت في عام 2019 طلباً بفتح تحقيق رسمي بهذه الاتهامات، إلاّ أن المدعي العام فاتو بنسودة نجحت في كسب الاستئناف، حيث أعطت دائرة الاستئناف في آذار الماضي إشارة البدء في هذه التحقيقات.

اعتاد المسؤولون الأمريكيون النظر إلى محكمة الجنايات الدولية بالشك، وتعاملوا معها بعداء واضح، إلا أن هذا القرار ببدء أول تحقيق للمحكمة منذ إنشائها في عام 1998 في جرائم وقعت في أفغانستان، والذي من شأنه أن يؤدي إلى اعتقال أمريكيين ومحاكمتهم، قوبل برد فعل غاضب في واشنطن، فقد وصف وزير الخارجية مايك بومبيو المحكمة بأنها “مؤسسة سياسية لا تخضع للمساءلة، وتتنكر بشكل هيئة قانونية”.

كما تبيّن أن هناك اتفاقاً سياسياً واسعاً في الولايات المتحدة حول هذه النقطة، وسياسة الولايات المتحدة الرسمية تعكس اتفاق الحزبين الرئيسيين، منذ مدة طويلة على حماية الأمريكيين من أن تطالهم المحكمة.

وكان الرئيس الأمريكي الأسبق كلينتون قد وقع في عام 2000 على نظام روما الأساسي للمحكمة، لكنه وفي البيان الذي أعلن فيه توقيعه، حذر خليفته من عرضه على مجلس الشيوخ حتى يتأكد أن المحكمة الجنائية الدولية لن تطالب بولاية قضائية على مواطني الدول التي لا تصدق على المعاهدة. وبالفعل أخذ خليفته بهذه النصيحة وعمل بها، فلم توقع إدارة بوش على نظام روما الأساسي، ووقعت معاهدات ثنائية لحماية الأمريكيين ومنع تسليمهم لمحكمة الجنائية الدولية، بعدها قام الكونغرس بتصديقها، إضافة إلى قانون حماية أعضاء الخدمة الأمريكية الذي يجيز استخدام القوة لإنقاذ الأشخاص الأمريكيين الذين تحتجزهم المحكمة. وحتى إدارة أوباما، التي شاركت في بعض اجتماعات المحكمة الجنائية الدولية وتعاونت مع المحكمة في بعض الأمور، رفضت تجديد التوقيع على نظام روما الأساسي، كما رفضت إلغاء المعاهدات الثنائية التي تحمي الأمريكيين من التسليم للمحكمة. كل هذا يعني أن الشكوك المسيطرة على الحزبين تجاه المحكمة الجنائية الدولية تمثل إحدى النقاط  النادرة المتفق عليها في السياسة الأمريكية.

لقد أثارت قرارات إدارة ترامب بإنهاء المشاركة الأمريكية في الاتفاقيات متعددة الأطراف، مثل اتفاق باريس للمناخ، والاتفاق النووي الإيراني، وتجاه مختلف منظمات الأمم المتحدة، صراعات حزبية لا حصر لها حول المشاركة الأمريكية على الساحة العالمية.

ورغم أن اتهام منظمة دولية غير خاضعة للمساءلة بمحاولة المساس بالسيادة الأمريكية، بدا وكأنه أحد أعظم إنجازات ترامب في عام 2016، إلا أن انتقاد الإدارة للمحكمة الجنائية الدولية يبدو أمراً مختلفاً.

ففي أيار الماضي، وجه عشرات من أعضاء مجلس الشيوخ وأكثر من 250 نائباً من كلا الحزبين كتاباً إلى وزير الخارجية بومبيو، داعين إياه إلى حماية إسرائيل، من تحقيق محتمل في المحكمة الجنائية الدولية، معربين عن قلقهم مما سموه استخدام المحكمة كأداة سياسية.

لذلك، وفي الوقت الذي ندد فيه كبير دبلوماسيي الاتحاد الأوروبي، ومراقبو حقوق الإنسان، والمحكمة ذاتها بخطوة ترامب، لم يكن هناك إلاّ رد فعل ضعيف في الداخل الأمريكي تجاه الأمر التنفيذي الذي أصدره ترامب، وبقي الديمقراطيون صامتين في الكونغرس.

ربما يرجع ذلك إلى أن المحكمة الجنائية الدولية، كما يظن الأمريكيون، قد تجاوزت تفويضها، الذي يقوم على التدخل عندما تكون الدول “غير راغبة أو غير قادرة على إجراء مثل هذه التحقيقات أو المحاكمات”. وهم يرون أن مدعي عام المحكمة بنسودة، قد مضت بعيداً في إصرارها على هذه التحقيقات، وبظنهم أن هناك حالات عديدة قامت من خلالها الكيانات الحكومية الأمريكية بالتحقيق في جرائم قام بها أمريكيون وعاقبتهم.

لكن الملخص الذي أصدرته المحكمة الدولية عام 2017 وجد أن هذه القضايا غير كافية، لأن الولايات المتحدة لم تقدم عنها معلومات مفصلة بشكل مناسب، ولأنه لم تكن هناك محاكمة جنائية لكبار المسؤولين عن هذه الجرائم.

تريد المحكمة الجنائية الدولية تقييم الولايات المتحدة على أساس التحقيقات والملاحقات القضائية التي قامت بها فعلياً. وبعبارة أخرى، تعمل المدعي العام للمحكمة وبجد لتحويل تحقيق عرضي لا مبرر له، كما يرى الأمريكيون، وهناك بعض العوامل الهامة التي تشجع على ذلك، فعلى سبيل المثال، تواجه المحكمة ضغوطاً من هؤلاء الغاضبين، الذين يرون أن المحكمة إنما تركز على متابعة القضايا في أفريقيا، فالاتحاد الأفريقي كان قد أصدر في عام 2017 بياناً يطالب أعضاءه بالانسحاب من المحكمة.

وتلاحظ بريت شيفر من مؤسسة التراث أن المحكمة بدأت تنظر في قضايا أوسع مدى جغرافياً، والفلبين مثال على ذلك. لكنها ترى بالمقابل أن المحكمة أنفقت “كمية هائلة من الموارد من أجل نتائج ضعيفة نسبياً”. وبميزانية بلغت حوالي 2 مليار دولار، لم يؤد عمل المحكمة منذ تأسيسها إلا ثمانية قرارات إدانة، وأربعة أحكام بالبراءة، وهي تعتمد اكتساب المشروعية على تحقيق بعض الإنجازات الكبيرة.

وبحسب كاتب المقال، فإن المحكمة الجنائية الدولية تعمل، وبنزاهة، على التمسك بالقانون، إلا أن إجراءاتها ليست محصنة ضد الاعتبارات السياسية، لكنه يرى أن فتح التحقيق في سلوك الولايات المتحدة يتعارض مع المبادئ التوجيهية للمحكمة، معتبراً أن الأمر التنفيذي الذي أصدره ترامب يشكل رداً قوياً على تجاوز المحكمة الجنائية الدولية لاختصاصها القضائي. وبنظره فإن المفهوم ألا تقبل الولايات المتحدة إجراءات المنظمات الدولية التي لم تنضم إليها.