ثلاثة سيناريوهات لموازين القوة في عالم ما بعد كورونا…
ترجمة وإعداد: إبراهيم أحمد
استعرضت صحيفة لوموند دبلوماتيك سيناريوهات المشهد الجيوسياسي في أعقاب الأزمة الاقتصادية التي نجمت عن تفشي فيروس كورونا، وتجلت في اختلالات كثيرة في دورة الإنتاج والتوزيع والاستهلاك بالنظر إلى تشعب العلاقات بين كل الأطراف الدولية في إطار العولمة. وجاء في مقال لها لـ: فيليب غولوب وهو أستاذ في الجامعة الأميركية في باريس، أن هناك ثلاثة سيناريوهات ممكنة لموازين القوة في العالم بعد الصدمة الكبيرة التي يعيشها حالياً تحت وقع أزمة كورونا، حيث يعيش نحو أربعة مليارات شخص في حالة حجر صحي.
تعاون وتكافل:
يرى كاتب المقال أن حالة الانكماش العميقة والطويلة التي ستطبع الاقتصاد العالمي قد تتجه نحو سيناريو أول يبنى على مزيد من التعاون والتكافل بين كل الأطراف عن طريق المنظمات الدولية، باعتماد سياسات عالمية ناجعة في مجال الصحة والطاقة والتغذية ومحاربة الفقر.
احتدام المنافسة:
وفي ظل أجواء الشك والريبة التي انتابت العالم جراء أزمة كورونا، يرى الأكاديمي غولوب أن السيناريو الثاني المحتمل يتمثل في احتدام المنافسة بين كل الأطراف الدولية، حيث ستسعى الولايات المتحدة لتعزيز قوتها، وهو ما سيعيد العالم إلى منطق المنافسة والروح الفردية التي سادت في الساحة الدولية في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، وهي الحقبة التي شهدت إحدى لحظات انهيار الاقتصاد العالمي.
مزيج من التعاون والتنافس:
أما السيناريو الثالث فالمتوقع، حسب الكاتب، أن يكون مزيجاً من التعاون والتنافس في الكثير من مجالات السياسة العالمية. ويقول الكاتب: إن هذا السيناريو هو الأكثر ترجيحاً ومعقولية، حيث سيكون العالم قريباً من الأجواء التي سادت في الساحة الدولية بعد عام 1947 في أعقاب الحرب العالمية الثانية.
وفي تحليله للسيناريوهات الجيوسياسية المحتملة لما بعد أزمة كورونا، تساءل الكاتب عن احتمال استفادة الولايات المتحدة والصين من تداعيات هذه الأزمة، وقال: إنه من شأن هذه الظرفية أن تسرّع عملية إعادة هيكلة النظام الرأسمالي المعولم وتحقيق التوازن بين الشرق والغرب. وأجرى الكاتب مقارنات بين الصين والولايات المتحدة، وأكد أن الأزمة الحالية أنهكت اقتصاد البلدين، وقال: إن وضعهما في موازين القوى العالمية حالياً ليس أحسن مما مضى. ويوضح الكاتب أن اقتصاد الصين أكثر عولمة من الاقتصاد الأميركي وله نقاط قوة كثيرة بينها القدرات الكبيرة على التدخل الاقتصادي في الكثير من مناطق العالم، لكنه لا يخلو من نقاط ضعف بينها الاعتماد المتزايد عبر العقود الأخيرة على مصادر خارجية فيما يتعلق بالطاقة والمواد الزراعية، وهو ما يجعل الأمن الغذائي تحدياً كبيراً بالنسبة للصين.
الاقتصاد العالمي.. وأدوار جديدة:
أما موقع “فالداي كلوب” الروسي فقد نشر تقريراً تحدث فيه عن فيروس كوفيد-19 الذي يسرّع من وتيرة التغيرات في عالم يتجه منذ وقت طويل نحو تعدد الأقطاب. وقال الموقع، في تقرير: إنه بالإضافة إلى الولايات المتحدة والصين، ستتضاعف قوة ومركزية الاتحاد الأوروبي وستصبح روسيا منطقة عازلة بين الصين وأوروبا.
وأشار إلى أنه من المتوقع أن تلعب الهند دوراً متزايد الأهمية في الاقتصاد العالمي، وسوف تسعى تركيا بدورها إلى أن تصبح القوة المهيمنة في البحر الأبيض المتوسط. وأضاف: إن فيروس كورونا دمّر الأسواق وصدم الاقتصاد العالمي، وإلى جانب المرض والفجوات المصاحبة في سلسلة التوريد، فإن حالة عدم اليقين تفاقم كلاً من الفوضى والصدمة.
العولمة.. وتعددية الأقطاب:
وسياسياً، في الوقت الذي لا يزال هناك العديد من الأمور المجهولة المرتبطة بالوباء وما يصاحبه من عواقب سياسية، فإنه يساعد على تسريع الاتجاهات السياسية الرئيسية على المدى الطويل ويؤدي إلى خلق عالم متعدد الأقطاب، ويخفض من درجة العولمة. وحتى قبل ظهور هذا الفيروس، كان ميزان القوى العالمي يتحرك بلا هوادة نحو “تعدد الأقطاب”. وفي الوقت الراهن، بات التكافؤ بين أقوى البلدان في العالم لعدة أسباب جلياً للعيان، وقد ساهم ظهور الفيروس في زيادة المنافسة والحمائية، وسوف يسرع من وتيرة هذا التحول.
هل يقضي فيروس كورونا على العولمة؟:
وذكر الموقع أن منطق العولمة الاقتصادية يعتمد على مستوى معين من الثقة وحسن النية بين البلدان المترابطة، في الوقت الحالي، تحتل الصين موقعاً مهيمناً في العديد من سلاسل التوريد العالمية، وقد تمكنت من بلوغ ذلك بسبب قدرتها على إنتاج سلع أرخص وذات جودة بشكل سريع مقارنة بمنافسيها، وبناء على ذلك، ستركز الشركات الأمريكية في البحث على أرخص الشركات المصنعة وسلسلة التوريد الأكثر موثوقية من الناحية السياسية.
العلاقات بين الصين والولايات المتحدة:
مع تحرك العالم نحو تعدد الأقطاب، ستتغير العلاقات بين الولايات المتحدة والصين، التي كانت بمثابة ركيزة للاقتصاد العالمي منذ وصول دنغ شياو بينغ إلى السلطة في الصين سنة 1978. كما ينبغي أن يؤخذ الخلاف الدبلوماسي الأخير بين ألمانيا والولايات المتحدة حول شركة التكنولوجيا الحيوية الألمانية “كيورفاك”، بعين الاعتبار، حيث ذكرت صحيفة “فيلت أم زونتاغ” في 15 آذار الماضي أن حكومة الولايات المتحدة عرضت المليارات على شركة “كيورفاك” لاحتكار اللقاح الذي تعمل عليه ضد فيروس كوفيد-19. لذلك من غير المستبعد أن تصبح التقنيات الحيوية مصدراً للسلطة السياسية الوطنية ومركز صراع جيوسياسي. وأوضح الموقع أنه مثلما كان لتعدد الأقطاب تأثير كبير على المنافسة في نشر البنية التحتية للجيل الخامس للأنظمة اللاسلكية وتحفيز تطويرها، فإن فيروس كوفيد-19 سيؤدي إلى تركيز الاستراتيجيات الوطنية الرئيسية على التكنولوجيا الحيوية.
الديون العالمية:
نبه الموقع إلى أن فيروس كوفيد-19 سيسرع من التراكم الهائل للديون العالمية. ويبدو أن الحافز النقدي والمالي اللازم لمنع حدوث كارثة اقتصادية عالمية تجاوز بالفعل المبلغ الذي تم إنفاقه لمواجهة الأزمة المالية لسنة 2008. فعلى سبيل المثال، ترفض ألمانيا اعتماد سياسة التقشف وبدلاً من ذلك تقدم أموالاً غير محدودة للمؤسسات المتضررة من الوباء، وتتعهد باتخاذ جميع التدابير اللازمة.
كيف سينتهي الوباء؟ وما تبعاته على العالم؟:
وأضاف الموقع: إن الدين سيغير أسواق الطاقة بشكل كبير في السنوات القادمة، فعلى الرغم من أن مستقبل القطاعات الاقتصادية مثل الرحلات الجوية والسياحة سيكون ضبابياً وستصبح السيولة مشكلة خطيرة للعديد من القطاعات الأخرى على المدى القصير، إلا أن المخاطر التي ستواجهها شركات النفط في أمريكا الشمالية تستحق اهتماماً خاصاً. في المقابل، يتعين على الحكومة الأمريكية اتخاذ قرارات حقيقية بشأن جدوى الحفاظ على صناعة الطاقة، خاصة أن فائض العرض العام يؤدي إلى انخفاض طويل الأجل في أسعار الطاقة. وبيّن الموقع أن الصين عانت من حرب تجارية مع الولايات المتحدة، ومن تبعات حمى الخنازير الأفريقية والعديد من المشكلات الاقتصادية الهيكلية الأخرى. وعلى الرغم من أن شي جين بينغ حوّل بمهارة أزمة ثقة الشعب إلى مسألة فخر وطني، إلا أن الانتشار العالمي للفيروس سيؤدي إلى تفاقم الضغط الاقتصادي والسياسي. وتشير بيانات المسح إلى أن القادة الذين وجهّت لهم انتقادات حادة سابقاً مثل إيطاليا وفرنسا يتمتعون الآن بدعم أوسع. ومع ذلك، قد تتغير هذه المشاعر بشكل كبير اعتماداً على مدى خطورة الأزمة التي تسببها الجائحة ومدى فعالية سياسة الحكومة في احتوائها. وأشار الموقع إلى أنه يمكن إعادة تأهيل بلدان مثل المملكة المتحدة وروسيا والهند والمكسيك، التي كانت بطيئة في احتواء الوباء، وتتعرض لضغوط كبيرة من الشعب. ورغم التهديد العالمي الذي يشكله فيروس كورونا، غير أنه يسرع الاتجاهات السياسية التي تقوض إمكانات العمل الجماعي العالمي.
وفي الختام، نوّه الموقع إلى أن التكنولوجيا الحيوية ستصبح المصدر الرئيسي للمنافسة في مجال الأمن القومي وسيتوقف مصير العديد من الحكومات على مدى فعالية تصرفها. لن يكون هذا الفيروس قادراً على تغيير العالم لوحده، وإنما سيعجل بالاتجاهات السياسية التي ستؤدي إلى تكوين صورة مختلفة تماماً عن العالم.