جابر روبن هود..
بعد منتصف الليل كما تذكر، استيقظت أم إبراهيم، الأرملة الستينية، على قرع باب بيتها المتواصل، ولكن بصوت منخفض. ارتيابها في ظروف أمنية مشابهة جعلها تُحجم مبدئياً عن الرد ولو بسؤال: “مين”، لكن طيف إبراهيم الغائب منذ 5 سنوات دون أية معرفة بحاله، أو حتى بخبر عنه، سواء كان على قيد الحياة أو العكس، جعل قلبها يسرع بالسؤال، ليأتيها جواب لم تفهمه حتى اليوم التالي: “افتحي يا أم إبراهيم أنا روبن هود”، لم تفهم السيدة التي تعيل ثلاثة أحفاد وأمهم زوجة ابنها ماذا يعني روبن هود، وإن كان الاسم كما تقول مرّ في ذاكرتها.
أخيراً عندما قررت أم إبراهيم فتح الباب بعد أن ابتعدت الخطوات التي يبدو أن صاحبها مضى بثقة وهدوء في طريقه، وجدت على العتبة “كرتونة”، وبعد أن عاينتها وجدت فيها العديد من المواد الغذائية مع كيس أسود صغير في داخله 25 ألف ليرة سورية!.
في الصباح عندما أخبرت كنتها بما جرى مع روبن هود، شرحت الكنة من تكون الشخصية لحماتها، ولم يكن من المرأة المحتاجة بشدة لتلك المعونة الإلهية كما وصفتها إلا أن رفعت يديها إلى السماء، وهي تدعو ربها “الله يحفظك يا روبن هود ويكرمك ويجبر خاطرك”.
الأمر ذاته تكرر مع عائلة أخرى، وفي عدة حارات متصلة فيما بينها كما كل العشوائيات بالدهاليز والممرات الضيقة، حتى سرت الحكاية بين أهل المنطقة، وصارت مصدر نقاش بين مثقفي المنطقة وفنانيها وشعرائها الذين اتفقوا على نبل الفعل، لكنهم شجبوا بشدة أن يكون الفاعل روبن هود، أحدهم ضحك من الأمر من باب السخرية، وأكثرهم خطابة تكلم عن كون لقب روبن هود هو للص انكليزي، لذا من الضروري على الفاعل أن يغير اسمه، وكان من بينهم من بدأ بالحديث عن تراثنا العربي المليء بشخصيات نبيلة كهذه، متسائلاً: لماذا لا يُلقب الفاعل نفسه بـ “جابر عثرات الكرام”، عوضاً عن هذا الـ روبن هود؟، صاحب القصة الشهيرة عند من قرأها أو سمعها، لكن الأكثرية في تلك المنطقة لم تسمع به قبلاً.
“لا يهم روبن هود أو جابر أو حتى سبايدرمان.. المهم الفعل”، قالها أحد الشباب وهو يعرف بقصة كل من جابر وهود، لكن صوته خفت بعد أن رمقه أهل الخبرة الأيديولوجية والفكر العميق رمقة لا معنى لها، قبل أن ينبري أحدهم، وهو “شاعر” كما تسميه الصحيفة التي يحملها معه أينما ذهب وحلّ حتى صارت من مواصفاته الشكلية المتداولة بين الناس، الصحيفة التي كلح لونها، وصار بين الحين والآخر يُعيد ترميم الحروف التي انمحت بأن يعيد كتابتها، الصحيفة التي تأبطها طويلاً حتى غدت من بقية أعضاء جسده لها قصة، فقد حدث أن نشر فيها ذات صدفة “قصيدة”، عندما كان ابن خالته يعمل في تلك الصحيفة، قسم المطابع، وهو من سعى له بالنشر، حام الشاعر كديك فقد عرفه في الساحة، وبدأ صوته يعلو رويداً رويداً، موجهاً كلامه بداية للشاب، وهو يشير إليه بالصحيفة المتهالكة: “لا يا صديقي، انتبه، هناك فرق وفرق كبير أيضاً، فرق ثقافي وفكري واجتماعي وإنساني وطوباوي وديني وميتافيزيقي ميكافيلي، ثم ما أدرانا بهويته ومن يكون؟ ربما يكون سارقاً، لصاً، قاتلاً”، وأراد أن يشرح أكثر لولا أن الناس الذين لم يعنهم الاسم انفضوا من حوله وهم يباركون الفعل وصاحبه، خصوصاً أنه لم تقع أحداث سرقة أو سطو أو غيرها مما كان يفعله هود خلال قيام هذا الـ “روبن هود” بتقديم معونات للعديد من العائلات التي أصابها العوز كحال الكثير من السوريين اليوم، لقد باركوا الفعل برضى ودعاء لصاحبه بالخير والصحة، تاركين النوايا لمن كان بها خبيرا.
مرت الأيام ثقيلة وبطيئة إلا من حدث يترقبه الجميع هناك في تلك البقعة الجغرافية المنسية، بعد أن صار أغلب من فيها بحاجة ماسة لمساعدات روبن هود، وجميعهم ينتظر حتى بزوغ الفجر أن يُطرق بابه ويكون هو المقصود، وفعلاً حدث أن قام البطل المُختلف على اسمه بمتابعة ما يقوم به، لكنه صار يقول لمن يسأل من الطارق: “جابر روبن هود”.
نال الشاعر نصيبه من المساعدة، كذلك الفنان والمفكر، وغيرهم، قبل أن يختفي جابر روبن هود، والانتظار لم يكن مجدياً، حتى نُسي الأمر، لكن حادثة محزنة وقعت قبل أن يختفي نهائياً، فالشاب الذي اعتبر أن الفعل هو الأهم من لقب الفاعل أثناء النقاش الذي دار حول القصة بين أهالي المنطقة، قامت إحدى دوريات العصابات التركية المحتلة بقتله، بعد أن أشاعوا أنه كان يحاول السطو على إحدى تلك الدوريات، وبأنها ليست المرة الأولى.
كانت جنازة بسيطة للشاب، بعد أن منعت قوات ذلك الاحتلال الأهالي من تشييعه. كما العادة، عاد الجميع بعد الدفن إلى خيمة العزاء، وهم ينتظرون أن يعود جابر روبن هود، ويطرق الأبواب التي تئن من الفقر والحاجة!
تمّام علي بركات