أسعار اللحوم بين مطرقة التهريب وارتفاع تكاليف مستلزمات الإنتاج!
اعتادت الأسر السورية الاستغناء عن اللحوم الحمراء منذ زمن طويل، وكانت تستعيض عنها بلحم الفروج لأنه كان متوافراً ومقدوراً عليه، إلى أن جنّ جنون أسعار لحم الفروج والبيض معاً وتضاعف سعره بشكل جعل المواطن يضطر إلى إعادة حساباته ووضع ميزانية جديدة أخرجت اللحوم بأنواعها من مائدته، الأمر الذي حمّله عبئاً إضافياً لتأمين قوته اليومي، وجعله يردّد عشرات الأسئلة التي تقضّ مضجعه من دون الحصول على جواب: لماذا هذا الارتفاع غير المسبوق؟ وما هي الأسباب؟ وهل باتت اللحوم بأنواعها حكراً على الأغنياء.. إلخ؟!
تهريب القطيع
الحال ليست على ما يرام، والوضع يزداد سوءاً، فالأغلبية العظمى لن تستطيع تناول اللحوم الحمراء بعد اليوم، حتى الطبقة الوسطى، التي كان عمادها الموظفون، ابتعدت عن شراء اللحوم الحمراء وتوجهت إلى نظيرتها البيضاء.. هذا ما بدأ به رئيس جمعية اللحامين، ادمون قطيش، الذي كشف عن صدور نشرة جديدة لأسعار اللحوم الحمراء في دمشق، وأن الأسعار الجديدة ستكون موحّدة بين “السورية للتجارة” واللحامين، إذ أصبح سعر كيلو غرام لحم الخاروف بعظمه بموجب هذه النشرة 8 آلاف ليرة، وكيلو غرام الهبرة بنسبة دهن 25% 9500 ليرة، وكيلو غرام هبرة الجدي بسعر 8 آلاف ليرة، وكيلو غرام هبرة العجل 8 آلاف ليرة، وسعر كيلو غرام هبرة البقر 8200 ليرة، وسعر كيلو غرام هبرة الجمل 9 آلاف ليرة، مشيراً إلى أن الأسعار حسب الدائرة تختلف من مدينة لأخرى، ومن قصاب إلى آخر؛ وتابع أن الدولة أيام زمان كانت هي من تقوم بتصدير الفائض من قطيع الأغنام والأبقار وغيرها، أما اليوم فنحن أمام حركة نشطة وكبيرة لتهريب القطيع بغض النظر إن كان فائضاً أم لا، وما يهمّهم هو الربح الكبير الذي يحصل عليه المهرّب عبر الحدود الشمالية لسورية، إلى أن وصلت أسعار اللحوم الحمراء القائمة إلى ما لا يصدقه العقل، ولا يستطيع الكثير من المواطنين شراءه.. ومع هذا تتعاون مديرية التجارة مع الجمعية لأنها على يقين تام بالأسعار الرائجة، ولكن إذا تمّت الشكوى على الجمعية من قبل المواطنين نقع في مأزق، فالتسعيرة المعلنة غير التسعيرة الفعلية، وهي حالياً تصل إلى 8000 ليرة لكغ العجل و12 ألفاً لكيلو الغنم! وهنا تساءل رئيس الجمعية: على أي أساس قامت وزارة التجارة بهذه التسعيرة للحوم؟!
انخفاض المبيع
بعد هذا الارتفاع الجنوني لأسعار اللحوم الحمراء انخفضت مبيعات اللحوم عند القصابين بنسبة أكثر من 70%، ما دفع بعض القصابين لإغلاق محالهم والبحث عن عمل آخر، وهذا ما أكده بعض اللحامين، إذ قالوا: إن المبيعات انخفضت بشكل كبير والربح بسيط ولم يعد كافياً لتلبية متطلبات أسرهم، حتى وصل بهم الأمر إلى يتشارك اثنان أو ثلاثة من القصابين على ذبيحة واحدة مرة في الأسبوع، حيث وصل سعر العجل ما بين مليون ومليون ونصف المليون ليرة سورية، بينما سابقاً كانوا يذبحون كل يوم ذبيحة!.
البعض الآخر بيّن أنهم اضطروا لترك هذه المهنة وبيع محلاتهم مع موجوداتها والبحث عن عمل آخر، فيما توجّه بعض القصابين لذبح العجول فقط وترك ذبح الغنم لأنه مهما تقاضى القصاب فثمن الكيلو -كما يؤكدون- يوقعهم في خسارة، إذ أن كل خاروف يحتوي على نحو 6-8 كيلو دهن والدهن غير مرغوب فيه، مشيرين إلى وصول عدد من تجار المواشي إلى الإفلاس، وأن أغلب القصابين مدينون للتجار. وأضافوا أن البعض من القرويين يعتمدون على الوظيفة في معيشتهم، وبهذا لن يستطيعوا شراء الأبقار أو تربيتها خاصة في ظل ارتفاع سعر طن العلف الذي سجل مؤخراً 250 ألف ليرة سورية، معتبرين أنه لا حلّ جذرياً ما داموا في وضع مضطرب في ظل عدم ضبط الحدود بالشكل المطلوب!!.
أسباب مقنعة
في الواقع إن لارتفاع أسعار اللحوم الحمراء أسباباً كثيرة ومقنعة، تأتي في مقدمتها مشكلة الأعلاف المتمثلة حالياً بنقصها، حيث إن الكميات التي توزعها مؤسسة الأعلاف قليلة جداً، وتشير بعض المعلومات إلى أن المخصّصات التي يتمّ توزيعها على المربين لا تشكل أكثر من ثلث الحاجة الفعلية لقطعانهم، ما يضطرهم إلى تأمين بقية حاجتها من الأسواق المحلية الخاصة وبأسعار كاوية، ولاشك أن مشكلة نقص الأعلاف وصعوبة الحصول عليها أدت إلى ارتفاع أسعار الأغنام والأبقار، حيث يُقدّر سعر الكيلو غرام من لحم الخاروف الحيّ حالياً بنحو 12 ألف ليرة، ولحم العجل الحيّ أيضاً 10 آلاف ليرة، ومن العوامل الأخرى التي ساهمت بارتفاع الأسعار غلاء الأدوية البيطرية من مضادات حيوية وطفيلية، ويكفي أن نشير هنا إلى أن سعر الليتر الواحد من السروب الخاص بمعالجة الطفيليات قد وصل في موسم استخدامه هذا العام إلى 16 ألف ليرة، وتضاف إلى هذه الأسباب عوامل أخرى منها تراجع أعداد الثروة الحيوانية الناتج أصلاً عن تقلص المساحات الرعوية، ونقص المساحات الخضراء، خاصة بعد عمليات استصلاح الأراضي الوعرة التي أتت على معظم المساحات التي كانت مخصّصة للرعي، ولا تفوتنا الإشارة أيضاً إلى الارتفاعات المذهلة التي شملت أسعار الفروج، إذ بلغ سعر الكيلو غرام من الفروج الحيّ في الأسبوع الأول من هذا الشهر لدى معظم الباعة 3200 ليرة، في حين أن التسعيرة النظامية كانت 2100 ليرة! وأكد أصحاب محال بيع الفروج الذين التقيناهم أن صعود الأسعار بين فترة وأخرى يعود لتزايد أسعار الأدوية التي ارتفعت مؤخراً بنسبة 30% قياساً بما كانت عليه في العام الماضي، إلى جانب الطقس وما يرافقه عادة من أمراض تؤدي إلى نفوق الكثير من طيور المداجن، فضلاً عن الارتفاعات المتواصلة لأسعار أعلاف الدواجن.
وفي الحقيقة إن جشع باعة اللحوم لم يتوقف عند حدود رفع الأسعار، بل يرتكبون العديد من الأخطاء الأخرى التي تزيد من أرباحهم، فالبعض منهم يذبح النعاج الكبيرة ويبيعها على أنها خراف صغيرة بهدف تحقيق الأرباح الفاحشة، ولعلّ الوضع الذي يساعد على هذه الارتكابات هو عدم وجود مسالخ نظامية في الكثير من المناطق، وهذا يعني أن الكثير من القصابين يذبحون الأغنام والأبقار في منازلهم وبعيداً عن أعين الرقابة.
بقي أن نؤكد على ضرورة تأمين حاجة الثروة الحيوانية من الأعلاف والأدوية البيطرية بغية الحفاظ عليها وزيادة أعدادها، وبالتالي الحدّ من ارتفاع أسعارها لقطع الطريق على تجار الماشية الذين يبرّرون رفع أسعار الماشية في المحافظات بتراجعها ونقص أعدادها، كما ونؤكد على أهمية قيام أجهزة حماية المستهلك بتشديد الرقابة على الأسواق وضبطها، ومنع الباعة من تجاوز التسعيرة النظامية والالتزام بالذبح داخل المسالخ.
عبد الرحمن جاويش