الاستئناس الحزبي بين الاصلاح والمواجهة
عبدالله سليمان علي
يخوض حزب البعث العربي الاشتراكي غمار تجربةٍ جديدةٍ على صعيد آليّة اختيار ممثّليه في مجلس الشعب. إذ تتبع قيادة الحزب أسلوبا جديدا تتخلى فيه عن دورها في “تعيين” هؤلاء الممثلين تاركةً الأمر لقواعدها الحزبية. وفيما تهدف هذه الخطوة إلى ضخ دماء جديدة في صفوف مجلس الشعب تعكس الإرادة الحقيقية للناخبين، وإنعاش الحياة الحزبية في سورية بعد مرورها بما يشبه السبات الطويل. فإنّه من غير المستبعد أن تكون خطوةً تمهيدية لتغييرات أخرى يُخطّط لإجرائها بما يتلاءم مع المرحلة الجديدة التي تدخل إليها البلاد وسط تحدياتٍ داخلية وخارجية.
ففي خطوة غير مسبوقة، أصدرت القيادة المركزية لحزب البعث العربي الاشتراكي، قراراً ناظماً لعملية “الاستئناس الحزبي” من شأنه نقل صلاحية اختيار مرشحي الحزب لانتخابات مجلس الشعب من القيادة المركزية (القطرية سابقاً) إلى القواعد الحزبية في إطار ما سمي “مؤتمرات الفروع الموسّعة”. وقد وُصف القرار بأنه سابقة في تاريخ الحزب حيث لم يحدث من قبل أن يشارك هذا العدد الكبير من البعثيين في اختيار مرشحيهم إلى مجلس الشعب.
وتمتد جذور هذه الخطوة “تنظيم قواعد الاستئناس الحزبي” إلى شهر آذار الماضي عندما قررت القيادة المركزية للحزب تجميد قرارات تشكيل قيادات الفروع الحزبية بسبب الاعتراضات التي وصلت إليها من قواعدها، وقررت إعادة تشكيل هذه القيادات بما يراعي نتائج الانتخابات ورأي الكوادر الحزبية باختياراتها.
ويعتبر هذا الانزياح في مركز “الاختيار” من الأعلى إلى الأدنى بمثابة صدمة ضرورية لكن إيجابية من أجل إنعاش الحياة الحزبية والسياسية في سورية كي لا يغلب عليها التكلّس والجمود. ويمكن اعتبار ذلك بمثابة امتداد للإصلاحات السابقة التي شهدتها الحياة السياسية في سورية وأهمها وضع دستور جديد للبلاد خالٍ من ظلال المادة الثامنة بخصوص قيادة الحزب للدولة والمجتمع. ورغم أن العديد من مقترحات الإصلاحات كانت قد نوقشت في السنوات الماضية لتجديد حيوية الحزب وتكريس ممارسات جديدة، إلا أن الظروف القاسية التي مرت بها سورية ساهمت في بقاء أغلب هذه المقترحات قيد الأدراج المغلقة.
هذا التأصيل يجد سنده في الكلمة المكتوبة للسيد الرئيس بشار الأسد التي نشرت بالتزامن مع الشروع في تنفيذ عملية الاستئناس الحزبي في عدد من المحافظات السورية. وقد استبطنت إشارة الرئيس إلى “الأخطاء” و “تراجع دور الحزب” و”الإساءة إلى صورته” رغبة جادة وحقيقية في شقّ مسار الإصلاح رغم الحرب الشرسة التي ما زالت تدور فصولها على الأراضي السورية منذ تسع سنوات.
ويعكس ذلك إدراكاً عميقاً بأن استمرار أعداء سورية في مهاجمتها، وآخر أسلحتهم كان قانون قيصر، لا ينبغي أن يكون ذريعةً لتنحية الإصلاح جانباً، بل على العكس تماماً، فإن الدفاع عن الوطن خاصة في ظل ما يستهدفه قانون قيصر من إعادة نشر الفوضى ومنع التوصل إلى تسوية سياسية، يتطلب أكثر من أي وقت مضى العمل، بشكل حثيث، على وقف النزيف الذي أصاب العلاقة بين السلطة والشعب، ومحاولة ترميم ما شابها من أخطاء.
ولم يكن من قبيل المصادفة أن تتزامن خطوة الإصلاح الحزبي مع خطوة أخرى غير مسبوقة في تاريخ البلاد السياسي تمثلت في قيام رئيس الجمهورية بإعفاء عدد من المسؤولين من مهامهم، الأمر الذي من شأنه توجيه رسالة إلى كل من يعنيه الأمر أن المطلوب في المرحلة القادمة هو أن تكون القيادات الحكومية والحزبية والإدارية على مستوى تحديات المرحلة وقادرة على التقاط متطلباتها بسرعة ورشاقة، ومن ثم بثّ هذه الإشارات إلى المفاصل الحكومية والإدارية لتتجاوب معها في التوقيت المناسب.
ومن المهمّ، بل شديد الأهمية، أن تلتقط مؤسسات الحزب وأعضاؤه الإشارات التي وردت في تعميم القيادة المركزية تاريخ 14 حزيران حول “منع التوجيه أو التدخل في عملية الاستئناس الحزبي لصالح أيّ مرشح كان, والابتعاد عن تغليب كفة رفيق على رفيق آخر تحت طائلة المسؤولية والمحاسبة”. لأنّ الالتفاف على هذا التعميم أو محاولة مقاومته من قبل من يفترض أنهم متضررون من أي عملية إصلاح لن يؤدي إلى عرقلة مسيرة الإصلاح وإفراغها من مضمونها فحسب، بل سيكون له انعكاسات جسيمة على مصلحة الحزب أولاً وثم مصلحة الدولة ثانياً لأنه ببساطة (أي الالتفاف) سيعني بشكل أو بآخر حرمان الدولة من خبرات الفئات الأكثر خبرة وكفاءة في قيادتها وتحمل المسؤولية عن إدارتها.
وتستبق انتخابات مجلس الشعب المقررة في التاسع عشر من شهر تموز الحالي الانتخابات الرئاسية بأقلّ من عام. ومن غير المستبعد أن تكون التغييرات التي طرأت على قواعد الاستئناس الحزبي وآلياته مقدمة لتغييرات أخرى يجري التخطيط لإجرائها قبل موعد الانتخابات الرئاسية بهدف مواجهة تأثيرات “قانون قيصر” وغيره من التحديات والضغوط الخارجية. ورغم أن المسؤولين الأميركيين يستخدمون في تصريحاتهم تعبير “تغيير سلوك النظام” دون “تغيير النظام” بحد ذاته، لا يستبعد بعض المراقبين أن يكون الهدف النهائي لواشنطن هو استنساخ سيناريوهات التدمير والتفكيك في المنطقة عبر العمل على إضعاف بنية هياكل السلطة الوطنية وقطع أواصرها مع الشعب.
كما أن السلطة في دمشق تدرك تمام الإدراك حجم الهجوم الذي سيشنّ على أي استحقاقات ديمقراطية بهدف تجريدها من أي شرعية محلية أو دولية، ومنعها من إحداث أي تغيير في قواعد اللعبة على المسرح السوري، وكذلك للحد من تأثيراتها المحتملة على المسار السياسي. لذلك يمكن فهم التغييرات الحاصلة أو تلك التي يمكن أن تحصل في الأشهر المقبلة على أنها مزيج يجمع بين رغبة الإصلاح من جهة وضرورات المواجهة والصمود من جهة ثانية.
لكن يبقى الرهان الأكبر على أسلوب وطريقة تطبيق التغييرات: هل ستكون مؤسسات الحزب على قدر المهمة الموضوعة على عاتقها لقيادة التغيير المنشود؟ أم أن بعض القوى الرافضة ستتمكن من عرقلة عجلة الإصلاح نتيجة مساسه بمصالحها المباشرة؟
قد تكون أسماء المرشحين لعضوية مجلس الشعب المقبل والفائزين هي الفيصل الوحيد في تحديد الإجابة عن هذا السؤال.