الاستئناس الحزبيّ مسؤوليةً وطنيةً وممارسةً ديموقراطيةً
تُعدّ عملية الاستئناس الحزبي التي تجري راهناً، من أهمّ المحطات التاريخية في سيرورة الحزب النضالية، ولا نبالغ إذا قلنا أنّها من الأحداث البارزة في مسيرة الحزب، حيث استمدت زخماً كبيرا من المكاشفة التاريخية للرفيق الأمين العام للحزب الدكتور بشار الأسد، التي تُعدّ مضامينها بوصلةً تشير إلى الأهداف الحقيقية للحزب من عملية الاستئناس، والتي تتلخص بكسر حالة الركود الحزبيّ على المستويين التنظيميّ والفكريّ واستعادة الحيوية الحزبية لمسيرته النضالية، واستعادة الصورة المثلى للحزب في الوعيّ الجمعيّ السّوري، وجعل الجميع يتحمل المسؤولية الوطنية والحزبية سيما الكوادر الكفوءة، بعدما أدت أخطاءٌ فرديةٌ في ممارسات بعض المسؤولين الحزبيين إلى عرقلة مسيرة الحزب من الناحية الديموقراطية.. من هنا تأتي أهمية كلمة الرفيق الأمين العام للحزب، في الإشارة إلى الخطأ والمكاشفة مع القواعد البعثية، ولأنّ الهدف الرئيس في عملية الاستئناس – كما حدده الرفيق الأمين العام للحزب – هو حفظ المؤسسة الحزبية وتطويرها وتقويتها، من خلال توسيع مشاركة القواعد الحزبية في اختيار ممثليهم لمجلس الشعب.
تأتي أهمية عمليات الاستئناس الحزبيّ الحاليّ في اختيار الحزب لممثليه في انتخابات مجلس الشعب، في لحظةٍ تاريخيةٍ صعبةٍ يمرّ بها الوطن، من حربٍ إرهابية وحصارٍ اقتصاديّ، وحملاتٍ نفسيةٍ عبر وسائل الإعلام وشبكات التواصل، تهدف إلى ضرب الوطن أولاً والمجتمع ثانياً، عبر سلاحي الإرهاب والحصار. لذلك فإن عملية الاستنئناس الحزبيّ ليست مجرد عمليةٍ تنظيميةٍ داخليةٍ تنتهي بانتهاء المهمة باختيار كوادر بعثيةً لدخول انتخابات مجلس الشعب في تموز القادم، بل هيّ روحٌ جديدةٌ في مسيرة الحزب سيبنى على مخرجاتها سياساتٌ وإجراءاتٌ مهمة، باعتبارها جزءاً من آلية القيادة الحزبية لمؤسسات الدولة، فنجاح التجربة يعني شيئأ، وتعثرها يعني شيئأ آخر.
ولا يخفى على أحد حالة الجدل الكبير والانتقاد التي كانت تسود الأوساط الحزبية والشعبية بخصوص مفهوم “ثقة القيادة”، وكيف تمنح ولمن تمنح، وما هي معاييرها، وتعلق عليها أخطاء بعض السياسات والممارسات الإدارية والتنظيمية، أمّا اليوم، فقد خرجنا من هذا الجدل إلى جدلٍ آخر، فالقيادة لن تمنح الثقة إلّا لمن منحه الجهاز الحزبي الثقة، والمعايير واضحةٌ في تعاميم القيادة المركزية إلى الجهاز الحزبيّ السابقة في عملية الاستئناس، سيما بعدم توجيه قيادات الفروع لصالح أحد، وعلى رأس هذه التوجيهات الكلمة التوجيهية للرفيق الأمين العام للحزب، والذي أكد أنه “لا يكونَّن في حسبان أيّ أحد أيّ اعتباراتٍ غير الاعتبارات الوطنية.. اختاروا بعيداً عن أيّ ولاءات ضيقة، واعتباراتٍ غير موضوعية، وعصبياتٍ لا تنتمي لعقيدة الحزب الوطنية والقومية”..
راهناً، وبعد مضي عدّة عمليات استئناسٍ في عدّة فروعٍ، يعود الجدل مجدداً: هل كانت النتائج مُرضيةً؟ أم لا؟، وتتراوح الآراء بين إيجابٍ وعدم رضا، كلٌ من زاوية تقييمه، لينقلب الجدل، الذي كان يحمّل أخطاء الاختيار للقيادات العليا، إلى جدلٍ يطرح تساؤلاتٍ عن تحمل كلّ بعثيٍّ مسؤولية نتائج الاستئناس. ورغم أنّ البعض أحال عدم رضاه لأسبابٍ كتدخل بعض القيادات الفرعية في دعم بعض الشخصيات بخلاف التوجيهات المركزية، والبعض الآخر عزا الأمر إلى القوة المالية لبعض المرشحين، وبعضٌ إلى وجود تكتلاتٍ ضمن عمليات الاستئناس، و.. و.. و.. ولكن كلّ ما سبق لا يلغي حقيقةً مهمةً وواضحةً، وهي أنّ من اختارهم هو الجهاز الحزبيّ في كلّ محافظة، والتعاميم كانت واضحةً لجهة تساوي الجميع في الحظوظ والدعم من القيادات الفرعية، وكلمة الرفيق الأمين العام للحزب كانت واضحةً في جعل الاعتبارات الوطنية هيّ الوحيدة التي تحدد الاختيار، ولذلك يتحمل الجهاز الحزبي كاملاً، في كلّ فرعٍ، مسؤولية ما اختار، والمسؤولية هي أمام ثلاث جهات: القيادة المركزية، والجهاز البعثي كاملاً (قيادات وأعضاء)، وثالثاً – وهو لا يقلّ أهمية – الجماهير غير الحزبية، فالحزب هو طليعة الجماهير، لذلك قلنا إنّ الاستئناس ليس مرحلةً تنظيميةً مؤقتةً، بل هو روحٌ جديدة لمسيرة الحزب في التعاطي مع الدولة والمجتمع.
وحتى نكون موضوعيين في كلامنا، لا تخلو أيّ عمليةٍ ديموقراطيةٍ من سلبياتٍ في الممارسة والأداء، والحزب جزءٌ مهمٌ وكبيرٌ ووازنٌ من هذا المجتمع الذي عانى ويلات الإرهاب والحرب والحصار، بهدف ضرب المشروع القوميّ العربيّ الذي بقيت دمشق نواته الوحيدة والصامدة، وخضع لعملياتٍ نفسيةٍ ممنهجةٍ تهدف ضرب وحدته الوطنية، وتماسكه الاجتماعيّ، فمن الطبيعيّ (مؤقتاً) وجود حالاتٍ لا ترضي أحداً، تستوجب العمل في المراحل اللاحقة على تجاوزها وتلافيها بالوعي والإرادة والنقد المقترن مع حلول.
لذلك فإن أهمّ ما في الاستئناس الجاري أمران أساسيان، لا اعتبارات في الاختيار إلّا الوطنية منها، والديموقراطية هيّ مسؤوليةٌ وطنيةٌ قبل أن تكون حريةً مطلقةً في الاختيار، ولأنّ الديموقراطية تصحح أخطاءها، نأمل أن تكون تجربة الاستئناس الحزبيّ نموذجا يعمم، بعد أن يقوم الحزب ممثلاً بقيادته المركزية بمراجعة التجربة وتقويمها، وتحديد أوجه القصور وربما الثغرات التي اعترت العملية الانتخابية، سواء من ناحية المعايير أم الطريقة الإجرائية التي فتحت جدلاً حول نجاعتها، ليصار إلى معالجتها، فالحزب أمام استحقاق المرحلة القادمة سياسياً بكلّ حيثياته وتفاصيله، الأمر الذي يستوجب إجراء تغذيةٍ راجعةٍ للتجربة بشكلٍّ دقيق، لأنّ حيوية الحزب من جهةٍ، وإتاحة الفرصة لكلّ قواعده في المشاركة اختياراً وتمثيلاً من جهةٍ مقابلة، ستكونان روافع الحزب أمام تحديات المرحلة القادمة ومتغيراتها وطبيعتها السياسية، فالتجربة رائدةٌ، والمسؤولية جماعيةٌ، وكلّ بعثيٍّ حضر الاستئناس كان مسؤولاً عما اختاره.
والجدير ذكره أنه من الأهمية بمكان تعميم النموذج بعد تقييمه في مختلف الفعاليات الانتخابية التي يكون الحزب طرفاً فيها، سواء منظمات أو نقابات أو اتحادات…حتى يصبح جزءاً من آلية العلاقة بين الحزب والسّلطة والمجتمع ممثلاً بهيئاته ونقاباته واتحاداته..
ختاماً، القادم من الأيام وما تحمله من تحدياتٍ جسام يحتّم الرقي بالمسؤولية إلى أعلى مسيويات الوطنية، سواء في الاختيار أو التمثيل، ولا عذر لأحدٍ في انتماءٍ ضيقٍ أو منفعةٍ شخصية وحتى صداقةٍ قريبة، أومكسبٍ آنيّ، فالجميع مستهدفٌ، وطوق النجاة جماعيّ وليس فردياً، عنوانه الوطن أولاً، والوطنية ممارسةً، عبر تأكيد مبادئ السيادة الوطنية والشرعية الدستورية والمواطنة أسلوباً.
الدكتور سومر منير صالح