مخاطر اليمين المتطرّف في ألمانيا
د. معن منيف سليمان
تحتاج ألمانيا إلى إعادة تقييم مخاطر التهديدات الأمنية، خاصةً أنها تهديدات أمنية ذات منشأ محلّي. وتتحمّل الحكومة الألمانية ورجال السياسة الكثير من هذه المسؤولية، الأمر برمّته سابقة خطيرة لم يسبق لها مثيل في ألمانيا.
كما أن الكشف عن مخطّطات تنظيمات وخلايا يمينية متطرّفة لتنفيذ هجمات واسعة النطاق في ألمانيا أثار تساؤلات كثيرة حول حجم خطر اليمين المتطرّف في البلاد، ولاسيما بعد التأكّد من وجود يمينيين متطرّفين يعملون في المجالات الأمنية أو السياسية أو التربوية أو الاجتماعية في ألمانيا.
وفي هذا الصدد يقول الباحث الاجتماعي وخبير الشؤون الإسلامية في ألمانيا “محمد عسيلة”: أنه بين حين وآخر يتمّ الكشف عن وجود عناصر يمينية متطرّفة في صفوف رجال الشرطة الألمانية. ففي أيلول الماضي 2019، فصلت وزارة داخلية ولاية “هيسن” خمسة رجال شرطة على خلفية اتهامات بالتورّط في جرائم ذات دوافع يمينية متطرّفة، وهناك الكثير من الحالات المشابهة. بالإضافة إلى دخول أحزاب ذات خلفية عنصرية فاشية للبرلمان الألماني تتخذ من الحقد والكراهية خطاباً لها، وأصبح خطابها مألوفاً حتى لدى شخصيات في الأحزاب الديمقراطية.
كما قال الخبير في شؤون الإرهاب في جامعة “كينغز كوليدج” في لندن “بيتر نيومان”: إن رسائل التهديد التي يوزعها اليمينيون المتطرفون تعكس “كراهية للأجانب ولغير البيض”. وكتب “نيومان” على موقع التواصل المصغّر “تويتر” بأن كتّاب الرسائل “يدعون إلى إبادة دول عدّة في شمالي أفريقيا والشرق الأوسط وآسيا الوسطى” مستخدمين “مصطلحات تدعو صراحة لتحسين النسل، مؤكّداً أن العلم يُثبت أن بعض الأعراق متفوّقة”.
إن اليمين المتطرّف لا يشكّل خطراً على الأجانب فقط، بل على ألمانيا بأسرها، فهم يحاولون العودة إلى الهوية الأحادية التي لا تتقبل الغير، وهذا ما يجعلها ترفض ليس من قبل المهاجرين وحسب، وإنما من قبل الألمان المنفتحين وأصحاب الفكر المخالف أيضاً. إن أيّ فكر متطرّف هو خطر على المكاسب التي حققتها ألمانيا ويمثل تهديداً مباشراً على النظام السياسي والديمقراطية، قبل أن يمثّل خطراً على الأجانب. إن ما يسجل من عمليات إرهابية لليمين المتطرّف، يمثل الشيء القليل من ظاهرة اليمين المتطرّف، الذي وصفه بعض السياسيين، من أن “النازية” في القرن الماضي، خلال عقد الثلاثينيات وما بعدها ما هي إلا “زقة طير” في سماء اليمين المتطرّف في الوقت الحالي، وهي تعكس حجم مخاطر اليمين المتطرّف في ألمانيا وأوروبا.
وعلى الرّغم من أن الاستخبارات الداخلية الألمانية حصرت عدداً من 12 ألف إلى 32 ألف شخص ينتمون إلى اليمين المتطرّف، لكن هناك استطلاعات أخرى، تقول: إن ما يقارب 1 – 5 بالمئة من المجتمع الألماني، ينتمي إلى اليمين المتطرّف، وإن نسبة 48 بالمئة من المجتمع الألماني يعارض استقبال المهاجرين واللاجئين، وهذا بحدّ ذاته مؤشّر خطير على نشوء ظاهرة التطرّف في المجتمع الألماني.
وتشمل تنظيمات اليمين المتطرّف في ألمانيا، النازيين الجدد، وحركة مواطني الرايخ، وحركة بغيدا المعادية للإسلام، والدم والشرف والمعركة 18 (الذراع المسلّحة لتنظيم الدم والشرف)، وجميع هذه التنظيمات معادية للمهاجرين وترفض النظام الألماني بشكله الحالي، ولا تعترف سوى بالامبراطورية الألمانية التي أسسها “أدولف هتلر” وانهارت بنهاية الحرب العالمية الثانية.
وقدّرت بعض الإحصاءات أن الاعتداءات المتكررّة ضدّ المهاجرين تصل إلى حدّ اعتداء كل يومين، فقد تمّ الكشف عن مخططات لتنفيذ هجمات وصفت بأنها مرعبة. وأدّى خبر كشف خلايا وإحباط مخططاتها إلى إثارة قلق المهاجرين، وتنامي شعورها بأنها مستهدفة، وطالبت شخصيات من المهاجرين بتوفير الحماية، وإلى وقف خطاب الكراهية ضدّهم في بعض وسائل الإعلام. والوقوف إلى جانبهم وطمأنتهم في هذه المرحلة الصعبة التي يمرّون بها.
وأثار الكشف عن هذه الخلايا إدانة رسمية في ألمانيا، وقد عدّ “بيورن غرونيفيلدر” المتحدث باسم وزارة الداخلية أن “وجود خلايا، وتطرّفها السريع خلال مدّة زمنية قصيرة للغاية أمر صادم”. في حين أكد ” شتيفان سايبرت” المتحدث باسم المستشارة الألمانية “أنجيلا ميركل”، على أن “الحكومة ملتزمة بحماية كافة الجماعات الدينية”.
وفي السياق نفسه أطلق مسلّح النار مساء يوم الأربعاء 19 شباط 2020، على أحد المقاهي في “هاناو” القريبة من مدينة فرانكفورت ثمّ توجه إلى مقهى آخر في المنطقة نفسها وأطلق النار على زوّار المقهى الآخر. وأسفر الحادثان عن مقتل وإصابة ما لا يقلّ عن تسعة أشخاص معظمهم من المهاجرين بحسب مصادر ألمانية. وقالت الشرطة الألمانية: إنها عثرت على رسالة اعتراف بخط يد القاتل وفيديو يعترف به بميوله اليمينية المتطرّفة وذلك بعد مقتله. ويُعدّ إطلاق النار الجماعي في “هاناو” ثالث هجوم مميت يحدث في ألمانيا خلال عام واحد مرتبط بجرائم كراهية.
لم يعد من الممكن عدّ مثل هذه الحوادث بمثابة هجمات فردية. إن حالة اللامبالاة في أوروبا فيما يخصّ مكافحة العداء للأجانب، أسهمت في زيادة مثل هذه الهجمات، وقد حان الوقت لجميع البلدان الأوروبية لتوحيد صفوفها ضدّ العنصرية والخوف من الأجانب، والتحدّث بصوت واحد وإلا، فإن العنصرية وكراهية الأجانب ستبلغان أبعاداً أكثر خطورة.
وهكذا يقع على عاتق الحكومة الألمانية توسيع صلاحيات أجهزة الاستخبارات والشرطة، بقدر معالجة جذور “ظاهرة اليمين المتطرف” وتفاقمه في البلاد، من خلال سياسات ناعمة، تتمثّل في محاربة التطرّف مجتمعياً تساهم فيها مؤسسات الدولة والإعلام والمجتمع.
بالإضافة إلى ذلك إيجاد “آلية” أفضل في رصد ومتابعة خطاب الكراهية والتطرّف على وسائل التواصل الاجتماعي، رغم ما هو موجود الآن من اتفاقيات، وأن تتحمّل الحكومات هي الأخرى إلى جانب خوادم الانترنت المسؤولية القانونية والأخلاقية في محاربة “ظاهرة التطرف اليميني”.
وفي المقابل، على المهاجرين أن يخرجوا من تقوقعهم وأن يقيموا فعاليات ومؤتمرات للتعريف بعاداتهم وتقاليدهم ليحققوا حضوراً في الفضاء الثقافي، وعليهم أن يبينوا قيمتهم الثقافية.