“دعوة الأطباء”.. الرواية الأولى ألّفت في القرن الخامس الهجري!
بغض النظر عن أن “فن الرواية” قد جاءنا من عند الأوروبيين، وأننا لم نمارس هذا الفن قبل فرنسيس المرّاش، فيما يسمّى رواية “غابة الحق” عام 1865، وكانت له الريادة في هذا الفن، والتي صوّرت الغرب المتمدن، وينعم بالحرية على الشرق المتخلف، ولايزال تحت نير الاستبداد، تأتي “دعوة الأطباء” للمختار ابن بطلان على شكل رواية نقدية ساخرة تتمتع بلغة سردية جميلة، وذوق مرهف وحسّاس بجماليات الشعر واللغة العربية، كما يقول عزت عمر الذي حقق المخطوط: “فقد راح ابن بطلان يحكي عن طبيب متجوّل، حطت الرحال به في مدينة “ميافارقين”، وأخذ يسأل عمّن فيها من الأطباء، فأرشد إلى دكة بسوق العطارين، وعليها شيخ من أبناء السبعين، وهذا الشيخ كما يصفه: مرهف الشمائل، حلو الدعاية، عذب الفكاهة، حسن المعارضة، متميّز عن أقرانه، متشبث بأذيال الأدب، وهو ذو براعة في صناعة الطب”.
تبدأ أحداث الرواية بلقاء الطبيب الضيف والطبيب الشيخ المضيف، وقد تكون هذه القصة، إذا سميناها كذلك، قد افتقدت لبعض عناصر الرواية الحديثة، ولكنها تمتلك عناصر كثيرة منها، كعنصر القصّ والسرد والحدث والحوار والوصف، بالإضافة إلى أنها كتبت بلغة عصرها، وكانت تتراوح بين الشاعرية المسجوعة والسردية المرسلة، في أسلوب يخلو من المبالغات والزخارف اللفظية، والوصف الإنشائي، وقد راعى ابن بطلان في مؤلفه أن يكون خالياً من الغموض لكي لا يتأثر عنصر القصّ، ساعدته في ذلك ثقافته الفلسفية التي نلحظها في كل فصل، ويمكن تصنيفها فيكتب المجالس والاختبارات الشعرية، ومن أجل إيصال “فكرة” إلى القارئ المثقف والعادي عبر حوارات بين الأطباء، تتضمن أفكاره في تأكيده على سمو مهنة الطب، وذلك من خلال نقده لفئة من الأطباء الذين يتمنون حصول الكوارث والأمراض والأوبئة لكي يتعيشوا وتزدهر صناعتهم، ومن خلال نقده للأطباء الدجالين الذين لا يتورعون عن الادّعاء بشتى الاختصاصات، ويفضح تواطؤهم مع بعض النسوة والصيادلة، كما أكد على أهمية مهنة الطب، وبعدها عن التقاليد البالية والخرافات والسحر والشعوذة، واستخدم ابن بطلان في مؤلفه هذا لغة نقدية ساخرة، كما استخدم مهاراته المكتسبة وموهبته وتوغله في نفوس أبناء عصره، ليتمكن من تصويرهم بكل خلجاتهم وسكناتهم وأطماعهم وشهواتهم وعفتهم وطهرهم.
عاش ابن بطلان في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري في بغداد، وتلقى علومه الطبية على أيدي أساتذة قديرين، تبدو آثارهم واضحة في أعماله، وعاصر كثيراَ من العلماء المشهورين، منهم: البيروني، وابن الهيثم، وابن سيناء، والكحال، وغيرهم، وعمل أثناء إقامته في بغداد بالبيمارستان العربي الذي أنشاه عضد الدولة، حيث نهل من تجارب سابقيه: (آل بختيشوع وماسويه والطبري والرازي وابن الجزار والزهراوي)، ثم ترك بغداد واتجه إلى مصر في النصف الأول من القرن الخامس الهجري، وقد دوّن هذا في رسالة وصف فيها ما شاهده من البلدان، وقد مرّ بالرحبة ثم حلب، حيث أقام فيها مدّة، ثم خرج منها إلى أنطاكية فاللاذقية، ووصل إلى الفسطاط سنة /441 هـ/1041م/، وأقام فيها ثلاث سنوات، ثم سافر إلى القسطنطينية، وأقام فيها سنة، ووصف ابن بطلان رحلته وصفاً دقيقاً أخاذاً، وصف الأنهار والحقول والأشجار والمدن التي مرّ بها، كما تعرّض لذكر الأوبئة، ووصف الحالة التي آلت إليها الناس والبلاد.
“في كل خريف تكثر الأمراض، وفي كل خمس سنين يعرض وباء وموت، فمنذ أن ملك الأمير نصر الدولة هذه الديار، كسدت الصناعة، وبارت البضاعة، وصحت الأجساد، وانكشف الوباء عن هذه البلاد، وانقطعت علة الخوانيق، وكانت قلّ ما فارقت الحلوق، وبطلت الأمراض الخريفية، وكان موسماً معروفاً، فصرنا لا نرى مريضاً إلا في كل حين، ولا نشاهد جنازة إلا في كل زمان بعيد، ولا نسمع صراخاً إلا في كل دهر مديد، حتى كان إقبال الأمير قد عصم الأبدان من الأسقام، وحصّن الأعضاء من الآلام”.
وحول وفاته يخبرنا صاحب كتاب “كنوز الذهب في أخبار حلب” أحمد بن إبراهيم سبط العجمي الذي يقول: “قال لي بهاء الدين، أبو أحمد الخشاب، إنه وجد، بخط بني شرارة النصارى الحلبيين، أن ابن بطلان توفي في أنطاكية يوم الجمعة الثامن من شوال سنة ثمان وخمسين وأربعمئة/ 1066م”.
على ما يبدو أن ابن بطلان سافر إلى أنطاكية من حلب، وساهم في بناء بيمارستانها، ثم ترهّب في أحد أديرتها، وانقطع إلى العبادة، إلى أن توفي فيها، وقد صنّف كتابه “دعوة الأطباء” في أثناء إقامته في حلب سنة 453 هـ/ 1061م، وهو يقول في آخر المخطوط: “فرغت من نسخه أنا مصنّف هيواثيس الطبيب المعروف بالمختار بن الحسن بن عبدون بظاهر القسطنطينية في آخر أيلول من سنة خمس وستين وثلاثمئة وألف/ 1365م”.
هذا كتاب ألّف في القرن الخامس الهجري، ويمكن اعتباره مشروع رواية أو بداية الرواية بمفهومها العربي، فقد تضمن كل قواعدها بحسب رواية القرن التاسع عشر.
فيصل خرتش