المثقف العربي.. غياب عن الوعي أم احتضار؟!
عندما طرح الناقد الفرنسي رولان بارت نظرية “موت المؤلف” لم يكن المثقف، عموماً، بمنأى عن هذا الاستدلال، فقد أعقب هذه النظرية، فكرة موت الناقد التي انتصرت للقارئ، ثم تبدت إشكالية من هو القارئ.
ولأن المثقف هو مصطلح شامل يجمع كل التسميات السابقة إلى جانب الحكمة والرؤية، فقد بات موته أو احتضاره موضوع سجال في المنابر الفكرية والأوساط الثقافية وإن اختلف الموت في التأويل بينه وبين المؤلف كما عناه بارت، ولاسيما عقب انكفاء دوره الطليعي الريادي في المجتمع بعد فوضى ماسمي “بالربيع العربي” ومغادرة المنبر لصالح المنظرين السلطويين والمنغلقين، في وقت تلح الحاجة إليه أكثر من أي وقت مضى، في ظل الاصطفافات الأيديولوجية والمذهبية والاثنية، التي جرفت المثقف التنويري إليها بإرادته أو رغماً عنه. فقد بدأ المثقف العربي في ظل التحولات السياسية والاجتماعية والإعلامية الكبرى ينغلق على ذاته وأفكاره، أو ينجرف سلباً مع تيار الفوضى واللاوعي الذي أفرزته مستجدات هذه المرحلة التي تعيشها بلاد عربية عديدة. ولم يعد المثقف كما يعرّفه المفكر المغربي محمد عابد الجابري في كتابه “المثقفون في الحضارة العربية” ذلك الذي يلتصق بهموم وطنه، وهموم الطبقات المقهورة والكادحة، وأنه المثقف العضوي الذي يضع نفسه في خدمة المجتمع، ويواجه التحديات المختلفة دفاعاً عن الحق والحقيقة” لم يعد له ذلك الحضور والتأثير، بعد أن أفرزت الفوضى الكثير من أصحاب الفكر الخلاق الذين تحركت فيهم الانفعالات العصبية الضيقة التي طغت على خطابهم اللغوي والفكري، ليبتعدوا في ذلك عن مفهوم المثقف الطليعي، الذي ازدهر في ستينيات القرن الماضي، تلك الفترة التي شهدت تجمعات ثقافية تنويرية متحررة من كل العصبيات سالفة الذكر، فلم يعد له ذلك الدور المؤثر في زرع الأمل بالمستقبل بين الناس، وزعزعة الأفكار الانهزامية الهدامة التي يحاول الآخر زرعها في النفوس لقتل الحلم والأمل بالغد الأفضل.
بات مثقف هذه المرحلة، وبسبب غياب تقنيات تأثيره التقليدية ومنها الحوار العقلاني والتحليل المنطقي لأحداث الواقع ومتغيراته ومآلاته، يتبنى لغة الشارع الانفعالية، متأثراً بما تفرزه وتقدمه وسائل التواصل الاجتماعي، التي طغت على تيارات الفكر الإنساني الفلسفي التنويري وكادت تحل مكانها، لتضعه ضمن فضاء افتراضي محدود الرؤى والأفق، وتبعده عن مفهوم المثقف الحقيقي الذي حدده الفرنسي جان بول سارتر في كتابه “دفاعاً عن المثقف” الذي لا يقف عند حدود الكشف عن مختلف التناقضات القائمة في المجتمع، بل يعمل على تغييرها وتوجيهها، ويعلن مسؤوليته الثقافية في مواجهة التحديات الناجمة عن ذلك”، لكنه حالياً،لا يقف متفرجاً وحسب، بل يساهم أحياناً في تعميق التناقضات القائمة، وتوسيع شرخ الانقسامات المصطنعة، بفعل الحملات الإعلامية المتعددة المشارب والأهداف، المشاركة في نفخ نار العصبيات الخامدة.
هذا الحال يحتم على المثقف إعادة قراءة وظيفته، والتساؤل حول دوره الاجتماعي، والبحث عن دور جديد يواكب المتغيرات والتحولات الجديدة. بدلاً من الانجرار وراء لغة غوغائية ضحلة، لكي لا يتم الإشهار بموته، بعد سنوات فقدان الوعي، والبوصلة.
آصف إبراهيم